وأعجبني هذا البيت من قصيدة التهامي، وملأ نفسي:
كيفَ رجوعي في الهوى بعدما
خَلعتهُ خَلعَ رداءٍ فَطاحْ؟
وقال المحقق في الهامش (17)، ص 84: "طاح يطوح طوحًا: أشرف على الهلاك". أقول: أيُّ معنىً لهلاك الرداء في هذا السياق؟!
والصواب أنَّ طاح بمعنى سقط، وهي لفظة فصيحة بمعنى السقوط، ولا زالت تستخدم في أغلب المحكيات اليمنية بهذا المعنى. والشاعر هنا يستنكر من نفسه كيف عاد الهوى يستخفه بعد نبذه عنه واطراحه له؟!
المجد شَرْبٌ لم يزل ماؤهُ
مُرَقرَقًا فوق صِفاحَ الصفاحْ
ثُمَّ قال:
لِكُلِّ مُعتَادِ ضِرابِ العِدَى
مِنْ فَوق مُعتادِ ضِرابِ اللقاحْ
قال في الهامش: "الضراب في الشطر الثاني من ضرب الفحل الناقة نزا عليها. اللقاح النوق. واللقاح جمع لقحة وهي الناقة الحلوب وإذا كانت كذلك فإنها تكره الضراب".
"المعنى: ليس سواء من اعتاد ضرب رقاب الأعداء، ومن اعتاد ضرب الناقة".
أقول: من أين استفاد المحقق هذا المعنى، وعلى أي أساس بنى هذه المقارنة التي يزعمها بين ضراب العدى وضرب النوق؟!
وإنَّما المعنى هو: أنَّ المجد لا يدركه إلا كل من مارس الحرب وقتل الأعداء على ظهور فحول الخيل التي اعتادت الضراب وخوض غمار الحروب والسير إلى الأعداء؛ ولو كانوا لَقاحًا -بفتح اللام- أي متمنعين لا يخضعون ولا يدينون لأحد.
يذكر أهل العربية أنَّ قريشًا، وهوازن، وتميمًا، والرباب، وحنيفة، كانوا لَقَاحًا؛ وإنَّما سموا بذلك؛ لأنهم لم يدينوا لأحدٍ من الملوك. وهذا استعارة من الناقة الَّلقَاح؛ لأنَّ الناقة إذا لقحت لم تطاوع الفحل في طرقه لها.
وبهذا المناسبة أذكر أنّ ابن العم الأخ أحمد علي محمد طاهر حدثني عن أحد أبناء بلدتنا ممن كانوا على الفطرة وشيء من السذاجة؛ كانّ إذا عاشر زوجته وعلقت منه وحملت، لا يقربها حتى تلد؛ خوفًا عليها من الإجهاض، قياسًا منه على بعض الحيوانات كالأبقار وغيرها.
وفي حديث لزوجه مع بعض صديقاتها وسؤالها عن الزوج، ذكرت هذا منه على سبيل التوجع والتشكي؛ فروجع في ذلك، واتضح له فساد القياس الذي اعتمد عليه.
يدبِّرُ والموتُ لَهُ فاغرٌ
طَرفًا حييًّا فوقَ طِرفٍ وَقاحْ
قال في الهامش (ص28)، ص87: "طرف وقاح: ذو وقاحة. المعنى: يقول: إنَّ الممدوح يقاتل، وهو لا يعبأ للموت الذي يفتح فمه لابتلاعه. والموت هذا في حالتين متناقضتين: حالة الحياء من الممدوح فلا يقدم عليه، وحالة الوقاحة فيقدم عليه. وهذا المعنى أخذه الشاعر من معنى آخر للمتنبي يمدح فيه سيف الدولة يقول فيه:
وَقفتَ وما في الموتِ شكٌ لواقفٍ
كأنك في جفن الردى وهو نائمُ".
أفول: ليس في البيت ما يدل على هاتين الحالتين المتناقضتبن كما يزعم الشارح. ويبدو أنَّ الشارح تصور أنَّ للموت عينين مركبتين إحداهما فوق الأخرى بشكل عمودي. فالتي هي فوق تستحي من الممدوح، والتي هي تحت تتواقح وتقدم عليه.
وقد تحرف في البيت لفظ (يُدبِّر) إلى (يدير). ومفعول يُدبِّر محذوف يدل عليه السياق.
والمعنى أنَّ الممدوح يُدبِّر شئون المعركة، والموت ينظر إليه باستحياء، أمَّا هو فيقدم على الحرب بشجاعة وإقدام غير هياب للقاء الموت؛ وهو -الممدوح- يخوض غمرات الموت على طِرفٍ -بكسر الطاء-؛ وهو الكريم من الخيل- وقاح.
وإذا كان الطِّرف الذي يمتطيه وقِحًا؛ فدلالة اللزوم تقتضي بالأولى أن يكون فارسهُ وقحًا؛ لأنه لِزاز الحروب الخبير بها.
وهذا يذكرنا بقصيدة بشارة الخوري في رثاء الزعيم الوطني اللبناني كمال جنبلاط:
أظنها طلقات الغدر حين هوت
تكادُ لو أبصرت عينيكَ تعتذرُ
وفي البيت:
يَنصِلُ في الطَّعنِ حرابَ القنا
كأنها ألسنةٌ في الجِراحْ
قال الشارح في الهامش (29)، ص 89: "نصل السهم ركب نصله. وأنصلته نزعت نصله".
والمعنى: يقول: هذا البطل وهو الممدوح-يركب نصل السهم ليقذف به الأعداء. وهو النصل كاللسان في الجرح".
أقول: لا وقت يتسع للمحارب، وهو في معمعمة المعارك، للقيام بتركيب نصل السهم، وإنَّمَا المعنى أنه ينزع نصال الرماح التي أصابته. ثُمَّ إنَّه شبه هذه الحراب بألسنة تتحرك في جسده المثخن بالجروح؛ فهي مغروسة في جسده كانغراس اللسان في الفم. وهذا مثل بيت المتنبي في مدح سيف الدولة الحمداني:
ولَّى صَوارمهُ إكْذابَ قَولِهِمُ
فَهُنَّ ألسنةٌ أفَواهُهُا القِمَمُ
أمَّا البيت:
يَعتصِبُ المجدَ عَلى نَفْسِهِ
وَقدْ يُبيحُ الطَّعنُ غَيرَ المُبَاحْ
فقد قال في الهامش (30)، ص98: "يعتصب: من اعتصب بالعمامة: شدها على رأسه، والكلام على الاستعارة".
المعنى: يقول: الممدوح يدخل المجد في رأسه ويشده عليه؛ حتى لا يفلت منه، وهو يبيح الطعن حيث لا يجرؤ فيه".
أقول: هل يتحقق إدراك المجد بمجرد أن تلوثه وتشده على رأسك؛ حتى لا يفلت منك أبدًا؟!
وما معنى أن تعصب المجد على رأسك؟
وما معنى قوله الشبيه بالطلاسم: "وهو يبيح الطعن حيث لا يجرؤ فيه؟!".
ثم إنَّ الشاعر لم يذكر الرأس أصلاً حتى يقوم بذكره. والصواب أنَّ في البيت تصحيفًا صوابه:
يَغتصبُ المجدَ على نفسهِ...
أي أنَّ الممدوح اغتصب المجدَ نفسَهُ، فحازه وانفرد به مستأثرًا به، وهذا كما تقول: غصبه واغتصبه ماله، وسلبه روحه.
ولمَّا أتى بلفظة الاغتصاب، أتبعها بقوله على سبيل التبرير، فقال: وقد يبيح الطعن غير المباح. تأكيدًا لهذا المعنى. فإنه ما نال ما نال من الشرف والمجد، وليس الشرف والمجد عنده سوى قتل النفوس، وسبي النساء، واستلاب الأموال. وهذا لا ينال إلا بقهر السيوف وطعن الرماح.
أمَّا قوله: وقد يبيح الطعن غير المباح، فعلى المذهب الذرائعي الميكيافلي: «الغاية تبرر الوسيلة».
لكنَّ الصُّليحي قال:
وكذا العُلى لا يُستباحُ نِكاحُهَا
إلا بِحيثُ تُطلَّقُ الأعمارُ
فأتى بلفظ النكاح الدال على المشروعية دون الاغتصاب الدال على القهر والسلب، أمَّا مهر العُلى فهي الأعمار التي تبُذل رخيصةً في سبيل نيلها. وقد صدق وبرَّ الصليحي فيما قال، فَنالَ الاثنين مَعًا.
وقال:
هل يقبلُ الضَّيمَ فتىً حبُّه
في الكفر والإسلام حيٌّ لَقَاحْ
في الهامش (36)، ص89: "يقول: كيف يقبل الظلم رجل له حبٌّ بين الكافرين والمسلمين متنامٍ ومتسع".
وقد تصحف هذا البيت على المحقق من (حَيُّه) إلى (حبه). والمعنى أنه لا يقبل الضيم والمذلة رجل ينتسب إلى حي وَقَومٍ أعزة لَقَاح لا يدينون ولا يخضعون لملكٍ في جاهليةٍ ولا إسلام.
وقال:
تبكي لكسرى وتراي ابنِه
فيستحيلُ الارتياع ارتياحْ
قال في الهامش (41)، ص89: "المعنى يقول: هذه التيجان عندما تتذكر أنَّ كسرى وُتِرَ بولده يخف عنها الخوف وتلتزم السكينة".
أقول: لا أظنُّ أنَّ كتب التاريخ أتت على ذكر فقد كِسْرى لولده. والمذكور في كتب السير والحديث قتل ابن كسرى لأبيه. لكن هذا قد يكون. وهب أنَّ كسرى ثَكِلَ ولده، فكان ماذا؟
وهل يفيد تذكر ذوي التيجان لتلك الوفاة المزعومة في زوال الخوف عنهم وحلول السكينة بهم؟!
ما هذا الكلام المخيط بصميل؟!
ما هذا السخف؟!
ما هذه الرِّكَّة؟!
ولعل الصواب: أنَّ الرؤساء حين ترى الممدوح -وهو من أصول فارسية- تتذكر كسرى وما جرى عليه؛ فتبكي حزنًا عليه لغابر ملكه، وعظيم عزه الذي زال عنه، لكنها حين ترى ابنه؛ يعود ذلك الخوف أمنًا، وينقلب ذلك الحزن راحةً وسرورًا.
وتراءى تفاعل من الرؤية أصلها تتراءى، فحذفت التاء الأولى تخفيفًا.
هذا ما غلب على ظني أنَّ (وتراي) الواردة في الديوان ليست إلا محرفةً عن (وتراءى)، والسياق يدل على ذلك. والعلم عند الله.
وقال في الهامش (51)، ص91:
في عَسْكرٍ مِنْ نفسه رايه
رأيته إن عَلَمُ الحربِ لاحْ
"المعنى: يقول: كل جيش له راية تميزه عن غيره إلا جيشك أيها الممدوح، فأنتَ رايته التي إذا ما ظهرت للناس، علموا أن الحرب قد وقعت".
وكلُّ هذا الهذيان الذي أتى به المحقق لا أساس له. فرايه محرفة صوابه: (رأيه). ورأيته صوابه (رايته). فيكون صواب البيت هكذا:
في عَسْكرٍ مِنْ نفسهِ رأيهُ
رايتُهُ إنْ عَلَمُ الحَربِ لاحْ
والمعنى أنَّ الممدوح يقوم بنفسه مقام الجيش الجرار، وأنَّ رأيه وتدبيره في الحروب هي الراية التي يقاتل تحت لوائها الجيش الذي يقوده. وقد سبقه المتنبي إلى هذا المعنى فقال:
لمَّا سَمِعتُ به سَمعِتُ بواحدٍ
ورأيتُهُ فَرأيتُ مِنهُ خَمِيسَا
وقال البوصيري في بردة المديح التي امتدح بها النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم:
كأنَّهُ وهُوَ فردٌ مِنْ جلالتهِ
في عسكرٍ حِين تلقاهُ وفِي حَشَمِ