عن النداء

في الذكرى الأولى للنداء
صدر العدد الأول من «النداء» قبل عام، وهذا هو عددها الـ29!. مجرد التفاتة إلى خط الإصدار الذي يدنو ترويسة هذا العدد من الصحيفة، تُظهر أن «النداء» أسبوعية سياسية مستقلة... أسبوعية هي، لا نصف شهرية، كما قد يخطر على بال، لكن عددها الثاني احتاج أكثر من خمسة شهور ليصل إلى القارئ. وللدقة، 21 أسبوعاً، لكأن أسبوع «النداء» ضوئي لا شمسياً، ولكأن حساب أيامها من مجرة أخرى لا مما تعدون. لم يُقدر لهذا العدد أن يحمل الرقم 50، وكادت لحظة الميلاد أن تدون في السجلات الرسمية لحظة ممات؛ فالعدد الأول صودر بعد أيام من توزيعه، وأردفت المصادرة بقرار إداري يقضي بإلغاء ترخيص الصحيفة، مؤذناً بمحنة قاسية لأسرة «النداء»، النداء الذي طرق الأسماع ثم ما لبث أن ضاع في المهب.
كانت تلك لحظة ملتبسة التقى عندها الميلاد والمحشر. الالتباس الزماني ( للتذكير فقد سوَّغ إلغاء الترخيص بصدور العدد الأول متأخراً 24 ساعة عن المدة القانونية) استزاد في حضوره الحافل بالمفارقات من التباس مكاني، فـ«النداء» التي صدرت فيما يشبه المعجزة، أثارت التباساً في هويتها لدى أهل اليقين في الحكم وبعض المعارضة، رغماً عن محتويات عددها الأول.
كان قرار الالغاء سياسياً، تنزل على هيئة قرار إداري صادر من وزير الاعلام. وكان على أسرة «النداء» أن تزيل الالتباس الزماني، أولاً، بنضال «مدني» استغرق خمسة شهور، قبل أن يقول القضاء كلمته بإلغاء الإلغاء الوزاري، وقد تزامن ذلك مع اتفاق بين الصحيفة والوزارة بوقف المسار القانوني من خلال سحب الصحيفة دعواها مقابل إلغاء الوزارة قراراها. وكان أن صدر العدد الثاني في 22 مارس 2005. ومذَّاك جهدت أسرة «النداء»، ثانياً، على إزالة «الالتباس المكاني» بتوكيد المنهج الذي التزمته في عددها الأول في تغطية متوازنة للاحداث، وفي فتح صفحاتها لوجهات النظر المتمايزة والمتباينة، وفي تجنب الانزلاق الى أية تحيزات ايديولوجية أو مناطقية أو مذهبية أو عنصرية.
جهدنا، زملائي وأنا، من أجل الخروج بـ«النداء»، من منطقة التباس دفعنا إليها، ولكن بالتشبث بالمنهج الذي اعتمدناه في العدد الأول، إذ ما من سند لنا غيره في أوقات البلبلة كما في ساعات الوفاق. وكان التقدير أن الالتباس مشكلة اصحابه في بيئة لما تنغرس فيها بعد صحافة مستقلة، وتشهد استقطاباً حاداً يتجاوز الاستقطابات التقليدية بين حكم ومعارضة، إلى استقطابات أشد حدة داخل معسكري الحكم والمعارضة، بين مراكز قوى وجيوب، علاوة على ما تظهره النخب السياسية، كجماعات، من ميلٍ قوي إلى تنميط الظواهر أمامها في قوالب جاهزة، ليسهل عليها، تالياً، تعيين الأعداء واصطفاء الأنصار!
على أن التحدي الأكبر الماثل دوماً يبقى في قدرتنا في أسرة الصحيفة، بدءاً من رئيس التحرير، في كبح انفعالاتنا وتفضيلاتنا في تغطية الوقائع، وفي مجاهدة إغراءات التسلط التي تولدها سلطة الإجازة والمنع لدى إدارة الصحيفة، فالصحفي إنسان، نفسه أمارة، لها أهواء ونزعات وميول وشطحات ونزوات، تحمله تارة إلى دور القاضي يصدر احكاماً عوض الشاهد ينقل ما رأى وسمع، وتارة أخرى إلى دور الشاعر يدبج المدائح أو يكيل الهجائيات، عوض النقَّاد يقرأ الواقع ببصر حديد وقلب سليم.
كان العام الأول لـ"النداء" طويلاً، حافلاً بالمنغصات حفياً بالمفارقات.
كان عاماً ضوئياً،لكننا محض بشر بسطاء يحدونا أمل بأن تكون سنتنا المقبلة شمسية!

رئيس التحرير

*******************************************************************
النِّداء الذي لا يخيب

بقلم / عبدالبــاري طاهــر

عام مر على صدور «النداء». كانت الفكرة شَديدة الوطأة والإلحاح على عزيزنا سامي غالب. كان مهموماً بها ومنها، وكان مهجوساً بالرد حتى قبل نطق «الياء».
ولم يخب ظن صاحبي الذي جرب قبل معنى النداء في الوحدوي والأسبوع وصحف أخرى.
يدرك سامي أن الصحافة لم تعد السقالات التي يقوم بها وعليها البناء، ولم تعد الصحيفة الإداة التي تصنع الحزب الثوري، وليست فقط سلطة رابعة كما أراد اللبراليون؛ فالصحافة في عصرنا الراهن «صناعة ثقيلة»، طبق توصيف المفكر الكبير كامل زهيري، إنها صناعة متعددة ومتنوعة فهي تصنع الرأي العام، وتقود الأمم والشعوب لقراءة نفسها والآخر، وتكشف الكنوز الخبيئة في النفس البشرية، بالمعنى العام والجمعي، فهي بصر وبصيرة الناس والحق والعدل، وهي ناقوس الخطر الذي ينذر قومه، وهي صوت وصدى وجدان الناس الطيبين، وأنات مكابداتهم، ودعوتهم الأبدية للعيش بحرية وكرامة، إنها نداء وأشواق الناس.
كان سامي مسكوناً بالصوت والصدى، فهو يبحث عن الاسم وعن رد الفعل على «النداء» قبل تكوين أحرفه الأولى.
عندما تحول النداء إلى صوت داوٍ، كان رد خزنة جهنم «وحماة الرب»، حسب تسمية غوته، قاسياً وأليماً، وشهقت ولادة النداء توقظ شهوة الوأد، فعادة الأعراب الأقحاح في الجاهلية لم يتخل عنها اسلافهم في مطلع القرن الواحد والعشرين، لكنه وأدٌ للصوت والصدى والضمير، وهو بمعنى وبمنطق العصر قد تفوق على وأد الاسلاف.
كان العدد الأول هادئاً بمايكفي لإيقاظ شياطين «الأمن» وعفاريت القمع. فالساحة لا تتسع إلا للصراخ، قدحاً أو ذماً، أما الصوت الهادئ والعميق فهو نذير الخروج على المألوف واليومي.
أُوقفت «النداء» في يوم الولادة. ولم يشفع للنداء عقلانيتها واتزانها وموضوعيتها في تناول مختلف القضايا. الأكثر غرابة أن الايقاف كان ثارياً ينتقم من رزانة الصحيفة، وعدم وقوعها في فخ «الخصام». كما لم تنفع سامي محاولاته الصبورة لمعالجة الايقاف المتعسف بالتي هي أحسن، فلم تنفع الوساطات، ولم يشفع الحِلم والصبر. فكان القضاء هو الملاذ الأخير. أنصف القضاء «النداء». فكانت أول صحيفة تُقمع قبل أن يسمع صوتها، وأول صحيفة فيما اتذكر تجتاز حاجز المنع بحكم شرعي في اصدارها الثاني.
وإذا كان القضاء قد انتصر لها، أو بالأحرى لحرية الرأي والتعبير، فإن أساليب القمع و القهر في بلاد واق الواق تبدأ ولا تنتهي.
بدأت المضايقات بسيل من الوعيد والتهديد طالت مكتب وكالة الأنباء الامريكية «الأسوشيتدبرس» ومديرها الزميل احمد الحاج، وطالت أيضاً العاملين والصحفيين في «النداء» ومكتب الحاج، وفرضت رقابة مكشوفة على مدار اليوم والليلة، واختُطف احد العاملين في الوكالة، وتوجت الحملة بتكسير سيارة الحاج ومضايقات الصحفيين والعاملين. ثم في خاتمة الحملة سُرق مكتب الوكالة والصحيفة، ونُهب كل ما تملك الصحيفة وهو الكمبيوتر الوحيد الذي لايزال ثمنة ديناً في رقبة سامي.
لا يمكن تفسير كل ما جرى ويجري للنداء بمسؤولية خطابها، فمسؤولية الخطاب أدعى لعدم العقاب (في بلد غير اليمن طبعاً)، ولكن ذلك على أهميته لا يمكن أن يجيب على كل اسئلة القمع المشرعة كأبواب جهنم.
يقيناً بأن «النداء» قد ولدت في ساعة شر بالمعنيين: الخرافي والواقعي؛ ولدت مع تفلت عفاريت القمع حد الجنون، فالصحفي هاجع الجحافي يتعرض لاعتداء عامد بظرف ملغوم استهدفه، وصحيفة «النهار» تتعرض أيضاً لملاحقات قضائية وتهديدات من أطراف متعددة منها مشائخ نافذون حد الوصول، وصحيفة «الشورى» تستنسخ ويحكم على رئيس تحريرها بالسجن لنصف عام، بينما يتعرض حزب اتحاد القوى الشعبية «لانقلاب عسكري»!، وتصل الدعاوى الكيدية ضد «الثوري» مايزيد على اثنتى عشرة دعوى، وأحياناً في محاكم مختلفة.
ويطال العقاب نقابة الصحفيين، وتتوالد صحف كالفئران تنهش الاعراض، وتمس المقدسات. ووسط هذه الدوامة تولد «النداء»، أو يأتي صوتها لينبه إلى خطورة الأزمة الشاملة، حاملة مصباح الحقيقة. وقدمت الصحيفة منذ الصرخة الأولى «نداءً» عميقاً ومتزناً لايزدري الحقيقة، ولا يتعالى على الواقع رغم كراهته، ولا يتشفى بآلام ومعاناة الناس. ولعل الوليد الجديد قد قدم في نقد مشروع قانون الصحافة "المبيَّت" مالم تقم صحف عتيدة، أهلية ومعارضة. ومن هنا كان نصيبها وافراً من مخزون القمع، فمن المصادرة والمنع إلى السرقة «العلنية» و«شبه الرسمية»، إلى مضايقات كتابها والعاملين فيها.
إن «النداء»، الصوت العميق والواعي، من الظواهر الجديدة التي تزدهر وتنمو رغم قسوة الواقع، ومرارات الاجراءات الاستثنائية والممارسات الوائدة، وأساليب الخنق التي تبدأ ولا تنتهي.
فتحية لـ«النداء»، الصوت والاسم والفعل والحرف. ونداء لأولئك الفتية الذين نذروا أنفسهم لنداء المستقبل ودعوة الحقيقة. وتحية للزميل العزيز سامي غالب، الانسان البسيط العميق والمتواضع الذي يضيء نفسه لينير الدرب. وليُسمِع النداء الأجيال القائمة والآتية.

******************************************************************
هذي «نداء» للناس*

استغرق البحث عن اسم لهذا الاصدار الجديد عديد اسابيع قبل أن يتناهى «نداء» من وراء جبل أشم وضاحية شموس!
اختيار اسم لمطبوعة جديدة أبعد من أن يكون رحلة سياحية ترفيهية، بل رحلة شاقة مليئة بالغصص والحسرات بعدما حجزت كل الأسماء المرغوبة في قائمة وزارة الاعلام للإصدارات المرخصة لصحف تصدر بانتظام في مستويات متفاوتة وأُُخر لا تصدر؛ لأسباب شتى، ليس أمرُّها غياب أصحابها في بحار الخلود أو قيعان النسيان، وثالثة تصدر فقط في المناسبات الدينية والوطنية، وأحياناً الاجتماعية.
ها إن "النداء" قد استُل من مصيدة التكاثر العشوائي، بعد مشاورات داخل دائرة ضيقة من الزملاء والزميلات الصحفيين، ومن صحاب يعدون أنفسهم من صنف ذوي الذائقة السمعية الرفيعة. لكن ما ان تقدمت بطلب ترخيص كتابي إلى وزير الإعلام، وأشَّر هذا عليه بخط يده موافقاً ومشفقاً ومشجعاً في آن، تماماً كما جميع المسؤولين والموظفين في الوزارة، حتى ظهر أن الاسم مثار انقسامات واحتجاجات بين الزملاء والاصدقاء، وبخاصة اولئك الذي رحبوا بفكرة الاصدار وشجعوا وصبروا وصابروا من دون أن يرهقهم انتظار ميلاد هذا العدد فيلتفتون عن صاحبه.
وجدت من يعترض باحتداد ضيف مشارك في الاتجاه المعاكس، واكثر من ذلك من لا يخفي اشمئزازه للاسم لمجرد أنه يقرأه محملاً بدلالات تطرف وأصولية. وكنت أحسب أن «نداء» بلا إضافة، كما في نداء الوطن أو العروبة أو الاسلام أو التقدم، كفيل بتجريده من أية محمولات ايديولوجية. وقد أبلغت هؤلاء، مناكفاً تارة ومغاضباً في اخرى، أن قراري نابع من تأثر عميق بأبرز منشور احتجاجي تم تصديره بهذا الاسم، عُلق على باب الكنيسة في مطلع القرن السادس عشر، كتبه مارتن لوثر، المحتج الأشهر و«اللامنتمي» الذي انشق عن المؤسسة مؤسساً لمذهب جديد يرفض وصاية البابوات ويُسخِّف وساطتهم بين العبد وربه، ما اعتبرته الكنيسة هرطقة، وعدَّه بعض رجال الدين ضرباً من «محمدية» على ما جاء في كتب التاريخ.
والحق أنني صادفت أصدقاء يساريين يستحسنون الاسم، في تجلٍ حنيني، لمجرد أن «النداء» كانت في عهد مضى جريدة الشيوعيين في لبنان. وبالمثل فقد بدا أصدقاء وزملاء إسلاميون أقل توجساً من الصحيفة وخطها؛ لأن "النداء" بات الآن وسط تنامي قوة التيار الاسلامي عنواناً أثيراً لصحف ونشرات وكاسيتات ذوات هوية دينية على امتداد الساحة العربية.
قوبل الاسم إذاً بعاصفة من الاعتراض، بيد أنني تشبثت به بإيعاز من إلهام داخلي، واتكاءً على استمزاج ذوي الذائقة السمعية الرفيعة المزعومين، واولئك المشهود لهم بالذائقة البصرية الراقية، وبخاصة الفنان احمد منصر الخطاط الشهير، وعبدالله المجاهد، الرسام الذي ينثر الحُب حيثما حل، والمخرج طارق السامعي، وثلاثتهم أصدقاء عزيزون، والأخيران عددت نفسي ذا حظ حليف إذ أتيح لي العمل رفقتهما في «الوحدوي» و«الأسبوع».
على أن الاسم محض لافتة لمكان، والأمكنة بناسها، مثلما أن الصحف بمضامينها وبسياساتها التحريرية وبأساليبها التعبيرية، وقبل ذلك كله برأسمالها الحقيقي: المصداقية والنزاهة. ولئن تقاصر الاسم عن أن يُحدث وقعاً جميلاً، تعالى المضمون لتزيينه ولجعله يتغلغل في وجدان القارئ كاسباً ثقته وصداقته.
والصحافة المطبوعة في بلادنا إما مملوكة للحكومة أو للاحزاب أو للأفراد (إذ لا مؤسسات بعد تملك صحفاً، عسى أن يكون ذلك قريباً)، والأصل -بصرف النظر عن هوية المالك- أن الصحافة ملك المجتمع في مغزاها، وإلا ما شددت الدساتير على الإعلاء من شان حرية الرأي والتعبير، وإلا ما زعم ناشرو الصحف أنهم يتوسلون خدمة المجتمع ورفاهيته. لكننا إذا نتلفت حولنا نلحظ من أسف أن الصحافة الحكومية في بلدنا تنحسر وظيفتها على الرغم من أنها تزخر بعشرات الكفاءات المهنية، إلى مجرد منابر «تنمق الأباطيل وتختلق الاكاذيب» كما كان يفعل شعراء البلاط ومثقفوه في عصور الانحطاط. وتتحول الصحف الحزبية، إلا ما رحم ربي، من منابر للرأي الآخر إلى بوق لتمجيد قائد الحزب أو مسدس هو وحده من يقرِّر هوية الطريدة ويقدِّر متى يضغط بإصبعه على الزناد.
بوق ومسدس، وصفان يُخلعان على الصحافة، يحبذ قادة احزاب المعارضة استدعاءهما كلما هبطوا مظلياً في مقرات صحفهم ليلقنوا العاملين فيها، اذا هم نسوا او أعرضوا عن ذكرهم، درساً جديداً في الالتزام الحزبي.
والمفترض أن الصحافة الأهلية أقل حمولة، وبالتالي أرشق حركة في تعاطيها مع الواقع وما يفرزه من ظواهر مستجدة. ونحن، زملائي وأنا، ليس في حوزتنا برنامج انتخابي متكامل نقدمه في مستهل هذا العدد كيما نكسب أصوات القراء، أو لنمثل على المجتمع الدولي كما في انتخاباتنا قبلوية الاحكام! بل رصيد محدود من الخبرة ومخزون بلا حدود من الحماسة وأقلام لما يخاصمها التواضع بعد، وحظ قليل من الخيال جرَّأنا على قطع خطوة في مسير أميال، ومن بعد ذلك طموح لا يُحد في أن يكون نداؤنا للناس رصيناً يحترم عقولهم، لا نخبوياً يتعالى على همومهم ولا شعبوياً يتملق عواطفهم ويدغدغ غرائزهم، لا طنطنة هو ولاتأتأة، لكنما نداء جديد، على ما يقول الليبراليون -إن كان لا مناص من محمولات- نداءٌ للناس ومن أجلهم.

> رئيس التحرير

* افتتاحية العدد الأول - 13 اكتوبر 2004