صنعاء 19C امطار خفيفة

7 يوليو 94 يوم انتصرت الدولة وبدأت المأساة

أعرف اني سأخوض غمارا شائكة، في الحديث عن حرب 94 التي عرفت آنذاك بحرب الردة والانفصال في ذكراها السنوية التي تصادف اليوم 7/7، لكني أرىٰ ان كتابة التاريخ في مثل هذه الأيام حالكة السواد في حياة اليمنيين، عمل مقدس يجب القيام به لكل من عاصر تلك الفترة، شرط ان يكون كاتبها متجرداً من الأهواء المناطقية، والمناكفات الحزبية والاصطفافات السياسية، حتى نفهم ماحدث آنذاك ونبني عليه..

 
في مثل هذا اليوم 7 يوليو 1994، انتصرت الدولة اليمنية على مشروع الانفصال، وانتصر معها خيار الجمهورية والوحدة على دعوات التمزق والتشطير، بغض النظر عن الأسماء والاحقاد التي علقت في أذهاننا، أتحدث عن دولة دافعت عن سيادتها وأرضها من التفتت والضياع..
 
لم تكن تلك الحرب نزهة اختيارية، أو خيار سياسي ضيق، بل كانت ضرورة وطنية، فُرضت بالقوة، من قبل شخصيات سياسية يمنية مدعومة بمواقف سياسية لبعض الدول التي أذكت أوارها ودفعت تكاليفها بالمليارات، وكانت رد سيادي قومي حتمي على محاولة تمزيق الوطن وتفكيك الدولة التي لم تكن قد بلغت عامها الرابع آنذاك بعد على إعلان الوحدة في 22 مايو 1990.. 
 
قاد الرئيس علي عبدالله صالح رحمه الله باعتباره رئيس الجمهورية، معركة الحفاظ على الدولة، وكان حينها رجل دولة بكل ماتعنيه الكلمة من معنىٰ، كان يُدرك أن سقوط عدن وبعض المحافظات الأخرى وسلخها عن الجمهورية اليمنية سيقود إلى عشرات السنين من الصراع والضياع والفوضى التي لن تنتهي..
لم يكن علي عبدالله صالح مجرد قائد عسكري في تلك اللحظة، بل رجل دولة تصرّف كحارس أمين على بقاء الجمهورية ومنع تفككها، وقد حقق النصر، ليس ضد الجنوب كما يُروج البعض، بل ضد مشروع تمرد وانفصال سعىٰ إلى إعادة اليمن إلى ماقبل دولة الوحدة، وفي الأخير انتصر مفهوم الدولة والسيادة على مشاريع التشطير والانقسام.
 
لكن الخطأ الفادح الذي يمكن أن يؤخذ على الرئيس علي عبدالله صالح ولن يسامحه التاريخ عليه، وله علاقة وطيدة جداً فيما وصلنا إليه من مشاريع تفتيتية في المحافظات الجنوبية، هو ماوقع بعد النصر، بعد 7/7، تاريخ المنتصر الذي كتبتُ عنه عام 2008، فبدل البناء على الانتصار لتوثيق عُرى الوحدة وبناء اليمن الواحد بكل أبنائه، جرىٰ إقصاء الشريك السياسي في اتفاقية الوحدة، وتهميش المؤسسة العسكرية الجنوبية، وتسريح الآلاف من كوادرها وقياداتها، ما أوجد شرخ عميق وجرح لايندمل، مازال مفتوح حتى اليوم، وهو ما لايليق بتاريخ الانتصار ولا بقيم الجمهورية..
 
أكبر خطأ ارتكبه الرئيس علي عبدالله صالح هو تحويل النصر إلى غنيمة سياسية، وأنانية مفرطة، لا إلى مشروع وطني جامع، يؤلف بين اليمنيين، ويجمع كلمتهم لبناء الدولة..
ضاعت ثمرة النصر، وتحوّلت الوحدة من مشروع وطني جامع إلى مظلمة في ذاكرة شريحة واسعة من الشعب، رغم أنها في جوهرها أكبر من الأشخاص، وأسمى من السياسات الضيقة. 
 
بالمقابل، عمل الطرف المهزوم بكل مااوتي من قوة وامكانيات للترويج لروايته الخاطئة، القائمة على تزييف الحقائق، وإذكاء الاحقاد والثارات السياسية لدى من وجدوا أنفسهم فجأة في الشارع بلا دولة تسندهم ولا وظيفة ترعى أسرهم، وتدحرجت كرة الثلج من حقوق مطلبية للعسكريين وجمعية المتقاعدين إلى مشروع سياسي ممول لتفتيت اليمن وتمزيق وحدته..!!
 
مازاد الطين بلة أن جيل كامل منذ 1994 وحتى اليوم نشأ على تلك التعبئة الخاطئة، والمعلومات المغلوطة بفعل الآلة الإعلامية المحلية والإقليمية التي كرّست رواية الانتقام والكراهية، وأرادت للتاريخ أن يُكتب بالأحقاد لا بالحقائق..
 
وتكرّس هذا التزييف أكثر، حين اندمج بعض السياسيين والعسكريين والإعلاميين والمثقفين بكل أسف في خطاب الكراهية، وتماهوا مع الرواية التي تصف ماحدث بأنه "احتلال شمالي للجنوب"، إما بدافع الخصومة السياسية أو الثأر والفجور في الخلاف مع النظام السابق والرئيس صالح شخصياً، ففقدوا البوصلة الوطنية، وفتحوا الباب لروايات التفتيت والانفصال.
 
هنا لابد أن نقول بوضوح: التاريخ لايُكتب بالهوى، ولا تُختزل القضايا بالأجندات.
ومع كامل الإقرار بأن هناك مظلومية حقيقية في الجنوب، وحقوق ضاعت، وانتهاكات مؤلمة ارتُكبت بحق آلاف العسكريين والمدنيين، إلا أن اختزال "القضية الجنوبية" في أصوات من يستثمرونها كدكان او بضاعة سياسية، يعرضونها لكل صاحب أجندة، ولكل من يدفع مقابل تمزيق اليمن، هو ظلم مضاعف للقضية نفسها، ولليمن واليمنيين، وخيانة للتاريخ.. 
بل إن كثيراً ممن يطّنطنون اليوم باسم الجنوب، ظلموا أبناءه أكثر مما فعل النظام السابق.. صادروا صوت الناس، وكمموا أفواه المخالفين، وأعادوا إنتاج التهميش والفساد بصورة أكثر فجاجة، ولكن بشعارات براقة ولافتات جديدة.
 
أخيراً.. لله ثم للتاريخ نقول: نعم، كانت حرب 1994 حرب عادلة في مضمونها، ضرورية في توقيتها، ومشروعة في أهدافها، لكنها تحولت إلى بداية مأساة، لأن النصر لم يُترجم إلى عدالة ولا إلى شراكة حقيقية.
علينا أن نفصل بين مشروعية الحرب وعدالة أهدافها، وبين أخطاء مابعد الحرب وسوء إدارة النصر، بل ونقد من أدار مابعدها بعقلية المنتصر لا بعقلية رجل الدولة، فالتاريخ يُنصف الشجعان في لحظة القرار، لكنه لايغفر لمن أفسد الثمار، والتاريخ كما الوطن لايغفر التفريط، ولايُكافئ من يكتب فصوله بالأحقاد.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً