في بلدٍ أنهكته الحرب، وتنازعته أطراف متعددة تحت شعارات "الشرعية" و"الثورة" و"المقاومة" و"المشروع الوطني"، يقف المواطن اليمني اليوم عاريًا من كل شيء: من الدولة، من الحقوق، من الحماية، ومن أبسط مقومات الحياة. لا رواتب، لا كهرباء، لا دواء، ولا حتى بارقة أمل في غدٍ مختلف.
الأطراف السياسية والعسكرية التي تتقاسم السلطة والنفوذ -من الحوثيين في صنعاء، إلى المجلس الرئاسي وقوى الإصلاح والمؤتمر والاشتراكي في الجنوب والمهجر- تتفنن في تبادل الخطابات، لكنها تتفق ضمنيًا على شيء واحد: الصمت عن المأساة اليومية للمواطن العادي، أو تسخيرها فقط لمكاسب دعائية.
أينما اتجهت، ترى معاناة تترجم نفسها في عيون العاطلين، في حناجر الأطفال الجياع، في صور المعلمين المنسيين، والأسر التي تموت على أبواب المستشفيات لعدم امتلاكها ثمن الدواء. وبينما يتقاذف هؤلاء "الفاعلون" التهم، ينامون في قصور ممولة من المال العام، ويعيش أبناؤهم في أوروبا ودول الخليج في رفاه لا يشبه شيئًا من اليمن.
ما يُثير الاستهجان ليس فقط حجم الفساد والفشل، بل محاولات تلميع وتجريم كل من يرفض السكوت. يُطلب من الناس أن يصفقوا لهذا أو ذاك، وأن يصطفوا مع طرف دون آخر، رغم أن الجميع -بنسب متفاوتة- مسؤولون عن إيصال البلاد إلى هذا الدرك.
كيف يُطلب من المعلم والموظف والجريح والمشرد أن يختار فريقه السياسي، بينما هو عاجز حتى عن شراء الخبز؟
كيف يُفترض أن تُمارس السياسة في بيئة جائعة، وسط غياب تام لمقومات الكرامة الإنسانية؟
وأين النخبة المثقفة والإعلامية التي يُفترض أن تكون صوتًا للناس، لا أداة في أيدي المتنفذين؟
لقد تجاوزنا مرحلة الانقسام السياسي إلى مرحلة تدمير الإنسان اليمني نفسيًا ومعيشيًا، وتحويله إلى كائن يبحث عن البقاء فقط. أما الحديث عن "مشروع وطني" أو "تحرير" أو "مقاومة" فقد صار يُستخدم كغطاء لتبرير الفشل وشرعنة الفساد، لا أكثر.
بين الشعار والحقيقة: المواطن هو الضحية
لا أحد يتحدث اليوم عن رواتب الموظفين المنقطعة منذ سنوات، ولا عن مأساة الطلاب الذين لا يستطيعون استكمال تعليمهم، ولا عن المزارعين الذين يختنقون بالديون، أو العمال الذين تآكلت أجورهم بفعل الانهيار الاقتصادي.
لا أحد يتحدث عن الصحفيين المعتقلين، أو النساء المقهورات، أو العائلات التي تهاجر قسرًا. الجميع منشغلون بالحسابات السياسية والولاءات، وكأن اليمن مجرد ملف على طاولة المفاوضات، لا وطنًا يتنفس الألم.
في ظل هذا الواقع، لا يملك المواطن اليمني ترف الحياد، لكنه أيضًا لا يرى نفسه ممثلًا بأي من هذه القوى. لقد أصبح وحيدًا، لا ينتظر شيئًا من أحد، وهو ما يُنذر بتحولات اجتماعية ونفسية خطيرة قد تُعيد تشكيل البلد بطريقة لا يمكن التنبؤ بها.
الختام: لا تطبيل بعد اليوم
من المعيب أن يُطلب من الناس التصفيق لمن نهبهم، أو مدح من أسهم في تجويعهم، أو تأييد من باعهم في سوق السياسة الإقليمية.
الوطنية الحقيقية اليوم، ليست في رفع شعارات فارغة، بل في الوقوف مع المواطن، ومع الحقيقة، ومع الحد الأدنى من الكرامة.
وعلينا أن نقولها بوضوح: من لا يملك مشروعًا لحماية الإنسان اليمني وحقوقه، لا يستحق أن يكون جزءًا من مستقبله.