قام فتحي أبو النصر بقراءة لكتاب "نواصب وروافض" لحازم صاغية، مؤكدًا أن الطائفية لم تكن مجرد خلاف على رواية حديث أو تفصيل في مناسك الحج. إنها جريمةٌ كاملة الأركان: سكينٌ سياسي يُغمس في زيت الدين ليذبح الوطن. فكتاب "نواصب وروافض" لحازم صاغية لم يخترع مرآة جديدة، بل كسر أقفال صندوق أسود كان الجميع يتظاهرون بأنه وهم، صندوقٌ يفيض برائحة الدم القديم: دم كربلاء الذي تحول إلى وقودٍ لحرب داحس والغبراء المعاصرة.
التاريخ هنا ليس سجلًا للأحداث، بل ساحر شرير يعيد إنتاج مجازره. ألم يحدثنا ابن قتيبة عن حروبٍ طائفية أحرقت المدن في العهدين الأموي والعباسي، والدولة الصفوية، وتحت مسمى الرفض والنصب رفعوا شعار التكفير والتفسيق والتنجيس من قبل "نواصب" يتذرعون بحماية السنة؟ نفس المسرحية تعاد اليوم بديكورات حديثة، فإذا كان محمد بن عبدالوهاب أشعل النار في بيوت شيعة النجف باسم التوحيد، وكذلك شيعة رفعوا ذات الشعار -شعار التكفير والتفسيق والتنجيس- في وجه خصومهم من أهل السنة.
ورغم أننا في اليمن الشمالي وفي عهد الإمام يحيى حميد الدين بالتحديد، حين سجن الإمام يحيى "علي عقبات" لأنه ألقى خطابًا في الجامع الكبير، يذكر فيه الناس بحديث الغدير، وبعد أن قضي ثلاثة أشهر في السجن خرج يستفسر من الإمام عن سبب أمره بسجنه دونما سبب شرعي، فرد عليه الإمام بغضب: "أنا يا علي عقبات إمام السني والشيعي، وقد بذلت جهدي في توحيد الشعب لفترة ربع قرن، وأنت تريد أن تفرقهم في ساعة"، كأنما كان ينحت وصيته الأخيرة لنا: الدين لله والوطن للجميع، وكأنه يخاطبنا اليوم قائلًا: "احذروا ممن يصنع من الدين سلاحًا للوصول إلى أغراض دنيوية".
وها نحن اليوم في اليمن لم تعد الطائفية وكذلك العرقية انقسامًا، بل صارت انفجارًا، لست أتحدث هنا عن خلاف فقهي بين الزيدية والشوافع، بل أخص جماعات تكفير وتفسيق وتنجيس جديدة طلت علينا بقرونها الشيطانية تحت مسميات حركة الأقيال والوعولية والعباهلة والعفافشة والحوثية، وأخطرها تلك الجماعات التي اختطفت الدين لتحوله إلى مشروع إمبراطوري إمامة أو خلافة.
لقد سمعنا وقرأنا عن نواصب وروافض العصر في يمن الحكمة والإيمان، ناهيك عن "العباهلة والوعوليين" التي تحولت إلى قنابل موقوتة. كما نسمع ونشاهد اليوم كيف يوزعون الولاء للخارج، ويوزعون صكوك الغفران وكأنه سند ملكية للجنة، بينما يدفنون مفهوم الدولة تحت أنقاض صروحهم الطاغوتية، كما أنهم لم يعودوا يقتلوننا لأننا "سنة" فحسب، بل لأننا نرفض أن نكون قطعًا في لعبة "القرشية". والضحايا؟ أطفال حجة الذين يموتون لأن طائفتهم ليست "نقية" كفاية!
الخديعة الكبرى أن الجميع يلعبون نفس اللعبة بأقنعة متبادلة. السعودية ترفع راية "محاربة الروافض"، بينما تمول جماعات تكفيرية تذبح السنة أنفسهم في مساجدهم! وإيران تتحدث عن "المظلومية الشيعية"، وهي تدفع بالمزارعين الحوثيين إلى الموت كوقود لحرب بالوكالة. الكل يبكي على كربلاء، لكن دماء كربلاء الجديدة تسيل في شوارع صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت.
حين نبحث عن حلول، نصطدم بجدار من الرياء. "مؤتمرات الحوار" التي تتحول إلى سوق لتبادل الاتهامات، و"الخطب الوعظية" التي تكرس للتمييز تحت شعار "الوحدة الإسلامية". الحقيقة المرة أننا بحاجة إلى مقارعة النار بالنار: تجريم خطاب الكراهية في الدستور، قطع التمويل الخارجي للمليشيات، محاكمة من يزرع التفرقة في مناهج التعليم. لماذا لا نطبق على "فتاوى التكفير" نفس عقوبات "التحريض على الإرهاب"؟ لماذا لا نعتبر دعم "جيش العباهلة" جريمةً ضد الأمن القومي؟
في النهاية، شعارات الفرز العرقي والمذهبي لا يحبها أحد: والطائفية لن تموت بخطاب تسامح. ستموت حين نعترف أنها مشروع إجرامي منظم. مشروع يبيع أوهام القداسة، ويشتري بالدماء عروشًا من وهم. الدين هنا لم يعد نورًا يهدي، بل بات قنديلًا في يد قاتل يبحث عن ضحيته التالية. الضحية التي ستظل دومًا هي أنت.. أيها الإنسان البسيط الذي ظن أن الإيمان ينقذه، فإذا به يصبح تذكرة دخول إلى مقصلة الطائفة.