صنعاء 19C امطار خفيفة

إيران وإسرائيل: مواجهة بلا حدود... الانزلاق نحو المجهول

لا تلوح في الأفق نهاية قريبة للحرب المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، بل إن السياق العام يشير إلى أن المنطقة تتجه نحو مزيد من التصعيد، في ظل غياب أي ملامح لحسم استراتيجي أو تسوية سياسية شاملة. فرغم الضربات التي نفذتها إسرائيل في العمق الإيراني، إلا أن هذه العمليات لم تسفر حتى الآن عن نتائج استراتيجية حاسمة توقف البرنامج النووي الإيراني أو تُغيّر قواعد اللعبة.

 

تدرك إسرائيل أن وقف المشروع النووي الإيراني يتطلب أحد خيارين: إما تغيير النظام السياسي في طهران، وهو أمر يبدو مستبعدًا في الظرف الراهن، أو تدخل عسكري واسع تقوده الولايات المتحدة، ويشمل ضربات شاملة تطال المنشآت النووية ومرافق البنية التحتية الاستراتيجية، كمنشآت النفط والغاز، ومحطات الكهرباء، والموانئ، ومصانع الأسلحة، والقوة البحرية الإيرانية، خصوصًا الغواصات والمدمرات. غير أن هذا السيناريو، يبدو مستبعدًا أيضًا، في ظل عدم استعداد واشنطن لخوض حرب بهذا الحجم، وتفضيل الرئيس ترامب الصفقات السريعة على المغامرات العسكرية الطويلة والمكلفة.
رغم امتلاك إسرائيل قدرات تقنية واستخباراتية متقدمة، فإن تفوقها على إيران يظل محدودًا نسبيًا. فهي قادرة على تنفيذ ضربات جوية في عمق الأراضي الإيرانية، وهي ميزة لا تمتلكها طهران، إلا أن هذه القدرة تخضع لقيود عملياتية واضحة. فالمقاتلات الإسرائيلية تُجبر على الطيران لمسافات بعيدة، محمّلة بذخائر محدودة، ما يجعل كلفة كل عملية باهظة، ويزيد من احتمالات سقوطها سواء بفعل الدفاعات الجوية الإيرانية أو نتيجة لأعطال فنية محتملة.
في المقابل، تمتلك إيران ورقة ضغط فعالة تتمثل في ترسانتها الواسعة من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، ما يمنحها القدرة على توجيه ضربات مستمرة داخل العمق الإسرائيلي لفترات طويلة، قد تمتد لأشهر، لا سيما إذا اقتصرت الهجمات في كل مرة على عشرات الصواريخ. هذا التوازن النسبي في القدرة على الإضرار المتبادل يُبقي الطرفين في حالة استنزاف دائم، دون قدرة فعلية على الحسم.
تدمير المنشآت النووية الإيرانية تحديدًا، لايزال يمثل معضلة أمام إسرائيل. فمعظم هذه المنشآت شُيّدت في أعماق الأرض، مما يجعل الوصول إليها مستحيلًا عبر الضربات الجوية التقليدية. وحدها الولايات المتحدة، بأسلحتها الاستراتيجية، أو إسرائيل باستخدام أسلحة نووية تكتيكية، يمكنها تدمير هذه المنشآت بالكامل، وهو خيار شديد الخطورة سياسيًا واستراتيجيًا. وحتى إن تمكنت إسرائيل من ضرب بعض المواقع، فإن قدرتها على تدمير مخزون اليورانيوم المخصب تبقى محدودة، خصوصًا إذا لم تتوفر معلومات استخباراتية دقيقة حول أماكن تخزينه، وهو مخزون قابل للإخفاء وإعادة التوزيع في مواقع متعددة ومحميّة.
بناءً على ذلك، فإن الحملة العسكرية الإسرائيلية الحالية، في أفضل الأحوال، قد تؤدي إلى عرقلة مؤقتة للبرنامج النووي الإيراني، لكنها لن توقفه. وهذا ما يفسر إصرار إسرائيل على مواصلة العمليات، إذ إن وقفها دون نتائج ملموسة سيُعد فشلًا سياسيًا واستراتيجيًا يصعب تبريره أمام.
أحد السيناريوهات المتفائلة -وإن كانت ضئيلة الاحتمال- أن تُفضي هذه الحرب إلى صفقة سياسية بين إيران والولايات المتحدة في الأيام القادمة، تتعهد بموجبها طهران بوقف تخصيب اليورانيوم، وتضع مخزونها الحالي تحت رقابة دولية صارمة. غير أن هذا السيناريو مشروط بتوازنات دولية معقدة، وبتنازلات مؤلمة من إيران، وهو ما لا يبدو أنها مستعدة لها حاليًا.
وفي ظل غياب الحلول السياسية، والحسم العسكري السريع، تتصاعد احتمالات الانزلاق نحو "حرب مدن"، تقوم فيها إسرائيل بالرد على الهجمات الصاروخية التي تستهدف مدنها، بهجمات مماثلة ضد المناطق السكنية في المدن الإيرانية. مثل هذا التصعيد سيحوّل الصراع إلى كارثة إنسانية مفتوحة، ويدفع المنطقة نحو مستويات غير مسبوقة من الفوضى والدمار.
وأخطر ما في الأمر احتمال استخدام أسلحة الدمار الشامل من طرفي الصراع. فمع تعثر كل محاولات الحسم التقليدي، قد تتجاوز الدولتين الخطوط الحمراء لتغيير قواعد الاشتباك بالقوة. فإسرائيل، وهي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك ترسانة نووية غير معلنة، قد تلجأ إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية ضد منشآت إيرانية محصنة بعمق لا يمكن اختراقه بالوسائل التقليدية. ومع أن مثل هذا الخيار محفوف بعواقب استراتيجية كارثية على المستوى الإقليمي والدولي، إلا أنه لا يُستبعد تمامًا في حال رأت القيادة الإسرائيلية أن الخيار النووي هو الوسيلة الوحيدة لمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية.
في المقابل، لا يُستبعد أن ترد إيران بأسلحة غير تقليدية هي الأخرى، إذ تُتهم منذ سنوات بامتلاك وتطوير قدرات في مجالي السلاحين الكيميائي والبيولوجي، رغم إنكارها ذلك رسميًا. وفي حال تعرضت منشآتها الحيوية أو مراكز قيادتها لهجوم نووي أو مدمر شامل، قد تعتبر طهران أن الرد بأسلحة دمار شامل هو "خيار الضرورة". حدوث هذا السيناريو، سيشكل لحظة انفجار إقليمي لا تقتصر تداعياته على طرفي الصراع فحسب، بل ستطال كامل الشرق الأوسط، وقد تُغرق العالم في أزمة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. فاستخدام الأسلحة المحرمة دوليًا سيعني انهيار قواعد الاشتباكات التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتكسر الحاجز النفسي والسياسي أمام استخدام هذه الأسلحة، وهو ما سيخلق عالمًا أشد خطورة.
معظم الدول العربية القريبة من إيران تتابع هذه الحرب بقلق، لكنها ترى فيها أيضًا فرصة. فهي تدرك أن امتلاك إيران لسلاح نووي يشكل تهديدًا وجوديًا لأمنها القومي، خصوصًا في ظل طموحات طهران التوسعية ودورها المزعزع للاستقرار الإقليمي. ولهذا، فإن أية نتيجة تؤدي إلى تراجع المشروع النووي الإيراني تُعد مكسبًا استراتيجيًا لهذه الدول، ولو تحقق ذلك عبر القوة.
وفي حال اتسعت رقعة الحرب وتم استخدام أسلحة دمار شامل أو دخول الولايات المتحدة، وربما بريطانيا وفرنسا الحرب، فإن الشرق الأوسط وربما العالم سيعاد تشكيله بعد أن تتغير فيه موازين القوى بشكل جذري.
في المحصلة، تقف المنطقة أمام صراع مفتوح على المجهول، لا يبدو أن أحدًا قادر على حسمه أو احتوائه في الوقت القريب. ومع استمرار الحرب دون أفق سياسي، ستظل المخاطر قائمة، ليس فقط على إسرائيل وإيران، بل على دول المنطقة وربما العالم.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً