في التاسع من يونيو، يُحيي اليمنيون ذكرى يوم الصحافة، مناسبة تتجاوز طابعها الاحتفالي لتتحول إلى محطة تأمل في واقع الإعلام اليمني، ودوره المحوري في حياة المجتمع، خصوصًا في ظل الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد. فالصحافة ليست مجرد مهنة أو وسيلة لنقل الأخبار، بل هي أداة لبناء المجتمع أو هدمه، لبثّ الوعي أو نشر التفرقة، ولتحفيز التفكير أو تغذية الانفعال. وفي هذا المفترق الحرج من التاريخ اليمني، تصبح الحاجة ملحّة إلى خطاب إعلامي مسؤول، يقوم على مبادئ راسخة في الصدق، والعدل، وخدمة الصالح العام.
إن الكلمة، حين تكون صادقة ونيتها خالصة، تصبح طاقة بنّاءة تؤثر في العقول والقلوب، وقد تساهم في التئام ما تمزق من روابط اجتماعية. ولعل من أعمق ما يمكن أن يتبناه الإعلام في هذه المرحلة هو الإيمان بأن الحقيقة ليست حكرًا على طرف دون آخر، بل هي مسؤولية مشتركة، وأن التنوع في الآراء والانتماءات لا ينبغي أن يكون مبررًا للصراع، بل مدخلاً لفهم أعمق للذات والآخر.
إن المجتمع اليمني، بكل ما يحمله من غنى ثقافي وتنوع مناطقي وطائفي وديني، بحاجة إلى إعلام يُبرز المشترك الإنساني قبل الاختلاف، ويضيء المساحات التي يتعاون فيها الناس رغم خلافاتهم، ويعرض الصور التي تعبّر عن صمود اليمنيين وتكافلهم في وجه المحن. الإعلام لا ينبغي أن يعكس الواقع فقط، بل أن يساهم في تغييره نحو الأفضل، وأن يكون جسرًا بين الفئات المتباعدة، لا حاجزًا بينها.
في العمق، وظيفة الصحفي ليست فقط أن يُخبر، بل أن يُبْصِر، أن يبحث لا عن الإثارة، بل عن المعنى، وأن يُسهم في ترميم الثقة المفقودة بين المواطن ومحيطه، بين الفرد ومجتمعه، بل حتى بين الإنسان ونفسه. حين نُمعن النظر في الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في توطيد النسيج الاجتماعي، ندرك أن الكلمة قد تكون في قوة الفعل، بل تتجاوزه حين تتغلغل في وعي الناس وتشكل نظرتهم للعالم.
في هذه اللحظة من تاريخ اليمن، حيث تتقاطع الجراح مع الآمال، وحيث الإنهاك لم يُطفئ كليًا شعلة الطموح إلى مستقبل أفضل، تبرز الصحافة كضرورة حيوية لإعادة بناء الروح الجماعية. هناك حاجة إلى إعلام يُعلي قيمة الإنسان، دون تصنيفه أو تحجيمه، ويجعل من المهنية وسيلة لخدمة القيم، لا أداة لتسويق الانقسام أو الانحياز.
وفي ظل هذه الرؤية، يمكن أن تكون الكلمة الطيبة أكثر وقعًا من أي شعار سياسي، وأكثر فعالية من أي خطاب تعبوي. حين يُقال الحق بلغة رصينة، يصبح وسيلة للتقارب لا للصدام، ويفتح بابًا للحوار بدلًا من تراكم الكراهية.
ويوم الصحافة اليمني، إذ يُذكّرنا بمن وهبوا حياتهم للحقيقة، يدعونا أيضًا إلى التفكير في مستقبل الصحافة ذاتها: أي صحافة نريد؟ وأي مجتمع نريد لها أن تُسهم في بنائه؟ هل نطمح إلى إعلام يكرّس الانقسام والعداوة، أم إعلام يزرع الأمل ويعزز الانتماء إلى وطن غني باختلافاته، لكنه موحَّد بقيمه وأهدافه؟
إن الجواب على هذه الأسئلة يبدأ من المبدأ البسيط بأن الإعلام، حين يُبنى على الأخلاق، يصبح في ذاته عملًا وطنيًا وروحيًا. وفي سياق مثل اليمن، فإن العمل الصحفي الشريف لا يقل أهمية عن أي جهود سياسية أو إنسانية أخرى. هو صوت اليمنيين حين لا يجدون من يُنصت إليهم، وصدى لتجاربهم وهمومهم وآمالهم.
بهذه الروح، وبهذا الوعي، يمكن ليوم الصحافة أن يكون بداية لإعلامٍ يعيد رسم صورة اليمن لا من خلال الألم فقط، بل أيضًا من خلال القدرة على النهوض، والتآزر، والتجدد.