تشهد العملات الرقمية لحظة تاريخية معقدة، إذ لم تعد مجرد أدوات للاستثمار أو ملاذات بديلة، بل أصبحت في قلب صراع سياسي عالمي يتشابك فيه المال، السلطة، والتكنولوجيا. ما كان يُروّج له في العقد الماضي كمنظومة حرة خارجة عن سيطرة الدول، يُعاد تشكيله اليوم تحت ضغط مركب من السياسات الحكومية، المنافسات بين الأثرياء، والاضطرابات الاجتماعية المتزايدة، وعلى رأسها أزمة المهاجرين، اشتداد الحروب الإقليمية، والخلافات بين رموز التأثير التقني والسياسي في العالم، مثل إيلون ماسك ودونالد ترامب.

خلاف ترامب وماسك لم يعد خلافًا تقنيًا حول المنصات أو حدود حرية التعبير، بل تحوّل إلى مواجهة غير معلنة حول من يتحكم في خوارزميات التأثير والرأي العام. ترامب الذي يعود إلى الساحة السياسية محاطًا بخطاب قومي، محافظ، مشكك في الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية، يسعى إلى ضبط هذه المساحات الجديدة وربطها بالمؤسسة السياسية الأميركية. في المقابل، يتصدر ماسك الواجهة بوصفه المدافع عن التكنولوجيا اللامركزية والاقتصاد غير الخاضع للدولة. البيتكوين والإيثريوم -وغيرها من العملات- تشكّل العمود الفقري لهذا الصراع. دعم ماسك المتكرر لها لا يمكن فصله عن طموحه لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي، بينما يُظهر ترامب حذرًا متزايدًا، مدفوعًا بضغوط الجمهوريين ومراكز النفوذ التقليدية في وول ستريت.

هذا التوتر يتفاقم مع أزمة المهاجرين في الولايات المتحدة، التي أصبحت سلاحًا بيد القوى السياسية المختلفة. تُستخدم العملات الرقمية أحيانًا كذريعة لتمويل أنشطة “غير قانونية” مرتبطة بتهريب البشر أو تفادي الرقابة المالية. في هذا السياق، يتحول البيتكوين من أداة حرية إلى “خطر أمني”، وهو توصيف كفيل بتمهيد الطريق لتشريعات صارمة قد تُقيد تداول العملات أو تُرغم منصات التداول على تسليم بيانات المستخدمين تحت دعاوى الأمن القومي. هذا المسار ليس جديدًا، لكنه يتسارع بشكل حاد مع اقتراب الانتخابات الأميركية والتغيرات في الخطاب العام، الذي بات أكثر راديكالية تجاه كل ما هو غير مركزي أو خارج المنظومة.
في الخلفية، تواصل الحروب زعزعة الاستقرار الاقتصادي العالمي، من أوكرانيا إلى غزة، ومن البحر الأحمر إلى الساحل الإفريقي. هذه الحروب لا تُنتج فقط كوارث إنسانية، بل أيضًا ضغوطًا مالية على الحكومات التي تحتاج إلى تشديد الرقابة على التمويلات، وقف تهريب الأموال، ومحاصرة شبكات الدعم غير النظامية. العملات الرقمية، رغم أنها استفادت في البداية من هذه الأزمات كملاذات آمنة، إلا أنها بدأت تُعامَل كأدوات مشبوهة محتملة. كثير من الدول، بما فيها ألمانيا، فرنسا، وإسرائيل، تطالب بتنظيم دولي شامل، بينما بدأت حكومات مثل الهند ومصر وتركيا بفرض قيود صارمة على التداول الحر، أو ربط العملة الرقمية بالمصرف المركزي.
لا تقتصر المعركة على الغرب والصين، بل يدخل الخليج العربي بكل ثقله المالي والتقني على خط المواجهة. السعودية تُراهن على مشروع “الريال الرقمي” كجزء من رؤيتها 2030، وتسعى إلى ربط الريال بمنظومات الذكاء الاصطناعي والحوكمة الرقمية، بما في ذلك الشراكة مع شركات أميركية وإسرائيلية في الأمن السيبراني والبلوكتشين. الإمارات تمضي بسرعة في تمكين بنيتها التحتية المالية لتصبح مركزًا عالميًا للعملات الرقمية والبلوك تشين، وتستقطب منصات كبرى تحت غطاء تشريعات مرنة، رغم التحديات المتعلقة بالشفافية. في الوقت ذاته، تلعب قطر دورًا براغماتيًا، مترددة في تبني العملات الرقمية اللامركزية لكنها نشطة في دعم البنية المالية الإسلامية الذكية، وتسعى لخلق بيئة استثمارية خالية من المضاربة الرقمية العشوائية. أما إيران، فتحاول استخدام العملات الرقمية لتفادي العقوبات الأميركية عبر شبكات موازية تعتمد على التعدين المحلي وصفقات غامضة مع أطراف في آسيا الوسطى، لكن الحصار التكنولوجي والرقابة الدولية جعلت هذه المساعي محفوفة بالمخاطر، بل ومرتبطة باتهامات غسيل أموال وتمويل جماعات مسلحة. التنافس الخليجي-الإيراني في هذا المجال يتحول إلى ساحة خلفية لصراع النفوذ المالي والسيبراني في الشرق الأوسط.
في المقابل، لا تقف الأنظمة المالية العالمية مكتوفة الأيدي. تظهر في الأفق بدائل جديدة مصممة لاحتواء الفوضى الرقمية: العملات السيادية الرقمية، أو ما يُعرف بـ CBDC، باتت أحد أقوى الأسلحة في يد الدول. الصين سبقت الجميع، وأطلقت اليوان الرقمي ضمن خطة واضحة للسيطرة على الاقتصاد الداخلي، وتوسيع نفوذها عبر نظام دفع رقمي يخضع للدولة. الاتحاد الأوروبي يناقش اليورو الرقمي بحذر، بينما تدرس الولايات المتحدة إصدار ما يُعرف بـ FedCoin، رغم الانقسامات السياسية حول ذلك. هذه البدائل لا تسعى فقط إلى تقليص نفوذ العملات المشفرة، بل أيضًا إلى تعزيز سيطرة الدولة على الحركة المالية، وتقليص الفجوة بين السياسة النقدية والواقع الرقمي.
ضمن هذا المشهد، تتراجع العملات اللامركزية أمام تقدم العملات الرسمية، لا بسبب ضعفها التقني، بل لأن الأنظمة بدأت تتعامل معها كتهديد مباشر للسيادة. ولم تعد المنافسة محصورة بين البيتكوين والدولار، بل أصبحت المعركة بين نموذجين: أحدهما يدعو إلى اقتصاد حر، مفتوح وغير مركزي، وآخر يعيد التوازن لمفهوم الدولة كضامنة للقيمة الاقتصادية. في هذا السياق، تلعب الصين وروسيا دورًا محوريًا، ليس فقط عبر محاربة العملات المشفرة داخل حدودهما، بل من خلال محاولة بناء نظام دفع دولي بديل عن SWIFT، يُتيح لها التحرك خارج الهيمنة الغربية، ويدفع بدول في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية للانضمام إلى هذا الاتجاه.
من جهة أخرى، يشهد السوق الرقمي ذاته انقسامات داخلية. شركات عملاقة مثل Binance وCoinbase تواجه دعاوى قضائية، وانهيارات مثل ما حصل مع FTX جعلت الثقة تنهار جزئيًا. آلاف المستثمرين فقدوا أموالهم، وتمت تصفية أصول ضخمة في فترة وجيزة. لم تعد المسألة مسألة تكنولوجيا، بل مسألة ثقة، وتشريعات، وأمن مالي. وهذا ما تستغله الحكومات لتمرير قوانين، بعضها يحمي المواطن، وبعضها يُستخدم لفرض رقابة شاملة.
وفي النهاية، يمكن القول إن مستقبل العملات الرقمية لم يعد مرهونًا بالسوق وحده، بل بأمزجة الحكومات، تحولات الحروب، الخلافات بين أقطاب التأثير العالمي، ونمو البدائل التي تُعيد الدولة إلى الواجهة. البيتكوين قد لا ينهار، لكنه بالتأكيد لم يعد يحمل وعد التحرر الكامل الذي بشّر به. من يتحكم اليوم بالبيانات، يتحكم بالمال، ومن يتحكم بالمال، يرسم ملامح السياسة الجديدة.