في حدود العام 2011 كتبَ الأخ الدكتور الناقد أحمد باحارثة دراسة نقدية تتعلق بمنهج النصوص والقراءة في المنهج الدراسي، وكان حينها أعطاني نسخةً منها؛ للاطلاع عليها وقراءتها.
لاحظ الدكتور في دراسته التي أجراها أنَّ منهج النصوص والقراءة لم يراعِ مبدأ التنوع بالنسبة للكُتَّاب والأدباء. والأعجب من ذلك -كما يقول- أنْ يَرِدَ في أثنائه نصوص لشعراءَ مغمورين لا يُعرف عنهم شيئًا كالشاعر محمد علي الصالح الذي وجد الأستاذ باحارثة اسمه يتكرر لأربع مرات في مواضيع شتى، مع أنه لم يصدر له ديوان شعر واحد!
بالإضافة إلى شاعر آخر اسمه محمد يحيى بلابل، حَظِيَ بنشر قصيدةٍ له في مُقرَّر اللغة العربية، الصف السابع، بعنوان «ثورة الجزائر»، وكُتِبَ في هامش الكتاب تعريفًا مُقتضبًا عنه، وأنَّ له ديوانًا تحت الطبع! (الهوية الثقافية الوطنية في مقررات التعليم، ص4).
فَمنْ يكون الصالح وبلابل الذين لا تعرفهما الأوساط الأدبية والثقافية، ولم يكن لهما في ذلك الوقت ديوان واحد مطبوع؟!
وماهي المعايير التي أهلتهما؛ فحفزت وزارة التربية والتعليم على نشر نصوصهما الشعرية في المنهج الدراسي، مقارنةً بأدباء وشعراء كبار كالبردوني والمقالح، فضلاً عن المتنبي وأبي تمام والبحتري والرضي؟!
في العام 1988 كَتبَ الدكتور أنيس عبد العظيم أنيس كتيبًا صغيرًا بعنوان «إصلاح التعليم أم مزيد من التدهور؟»، وذكر في مقدمته أنَّ أوضاع التعليم بمصر لا زالت تسير مِنْ سيء إلى أسوأ منذ أوائل السبعينات، وأنَّ التعليم بها أخذَ ينحو مَنحىً طبقيًّا، وأنه لا يمكن تصور أي إصلاح جِدِّي للتعليم في ظِلِّ وضع اجتماعي وسياسي واقتصادي فاسد.
ويدلل أنيس على الحالة المزرية التي وصل إليها التعليم بمصر بثلاث حوادث هَزَّتْ المجتمع المصري:
الأولى: واقعة ناظر مدرسة ابتدائية في سوهاج يقود عصابة للسطو على السيارات ليلاً.
والثانية: ناظر مدرسة إعدادية في شمال القاهرة يدير منزله للدعارة.
والثالثة: واقعة كبار موظفي وزارة التعليم اتهموا بتقاضي عشرات الألوف من الجنيهات باسم ترجمة كتب الوزارة إلى الإنجليزية، وقد قام الوزير بإحالتهم إلى النيابة الإدارية. (ص3-4).
كثير من مفكري النهضة والإصلاح في وطننا العربي أمثال الأستاذ محمد عبده والطهطاوي ومحمد الطاهر بن عاشور والكواكبي ومحمد رشيد رضا ومالك بن نبي وغيرهم أدركوا أهمية تحديث التعليم، ودعوا إلى ضرورة تطويره وإصلاح نظمه حتى في أعرق مراكزه كالأزهر والزيتونة والقيروان.
كان إصلاح التعليم بالنسبة للأستاذ الإمام محمد عبده هو الأولوية؛ الأمر الذي أدى إلى الاختلاف مع أستاذه جمال الدين الأفغاني الذي كان يرى أنَّ السياسة وإصلاح نظام الحكم هي البوابة التي تفضي إلى الإصلاح.
أمَّا الأستاذ أحمد نعمان، فقد حمل على عاتقه هَمَّ الاثنين: إصلاح التعليم وتحديثه، والدعوة إلى ضرورة الإصلاح السياسي.
لم تكن مهمة الأستاذ محمد عبده بالسهلة، فهو مع توليه مشيخة الأزهر، لم يسلم من تعنت ومعارضة كبار شيوخ الأزهر، وجهلة الفقهاء والمتعصبين الذين رفضوا تدريس مقدمة ابن خلدون في الأزهر الشريف بحجة أنه لم يفعلها الأسلاف، ولم تَجرِ بها العادة في الأزهر.
ويذكر السيد محمد رشيد رضا أنَّ الأستاذ محمد عبده قد احتال لإدخال تعليم الإنشاء في الأزهر احتيالاً، بسبب المعارضة الشديدة التي لقيها من كبار الشيوخ الذين كانوا يقولون: إنَّ الإنشاء ليس بعلم، وأنهُ لا يصح أن يُجْعَل في مواد التدريس، فضلاً عن معارضتهم لِمَا كانوا يسمونه بالعلوم الجديدة كتقويم البلدان، والحساب والهندسة. (العلماء والاستبداد، لكاتب المقال، ص 51-52).
وهذا هو المصير الذي لاقته أيضًا المدارس التي قام بافتتاحها قبل ثورة الـ 26 من سبتمبر 1962م، الأهالي وبعض رواد التعليم آنذاك في قرى التربة والأغابرة والاعبوس، حيث تَمَّ إغلاقها.
عَنَّ لي لكتابة هذا الموضوع أمران اثنان:
الأول منهما: القرار الذي أقدمت عليه وزارة التربية والتعليم بمنع تدريس اللغة الإنجليزية للصفوف الأولى.
وفي رأيي أنَّ هذا القرار لن يقدم ولن يؤخر. فالمنهج الذي تم إلغاؤه لا فائدة تُرجَى منه. لقد درسنا اللغة الإنجليزية بهذا المنهج السقيم في مدارسنا الإعدادية والثانوية ولمدة ست سنوات؛ فخرجنا أجهل ما نكون بها، فضلاً عن العقدة التي رافقت كثير من الطلاب من هذه اللغة وجدوى إتقانها.
في الوقت الذي لا يستغرق الأمر -مع المثابرة والجد- سوى سنتين إلى ثلاث سنوات في المعاهد الخاصة؛ حتى يحصل الطالب على مستوى جيد وإلمام معقول بهذه اللغة المهمة.
وقد أخبرتني أستاذتي الفاضلة الدكتورة عزيزة طالب أنَّ أطروحتها التي قامت بإنجازها في الولايات المتحدة كانت حول مقرر اللغة الإنجليزية الذي يتمّ تدريسهُ بالمدارس اليمنية، وخلصت فيها إلى عدم جدوى هذا المنهج وعُقمِه، وأنَّ الطالب لا يفيد منه شيئًا.
أمَّا الأمر الثاني: فعند مطالعتي في ديوان التهامي. والشاعر التهامي من كبار شعراء العربية. كان أولُ قصيدةٍ طالعتها له منذ مدة طويلة رثاءَهُ لابنه الذي فقدَهُ صغيرًا، وهي:
حُكْمُ المنِّية في البريِّة جَارِي
مَا هذهِ الدُّنيا بِدارِ قَرارِ
ويذكر أهل الأدب أنَّ أبا العلاء المعري كان كثيرَ الإعجاب بهذه القصيدة، جم الثناء على صاحبها، حتى زاره التهامي في بيته، وأنشده إياها، ولم يكن له سابق معرفة به. وحين فرغَ مِنْ إنشادها، قال له المعري: لا شك أنك التهامي.
فاستغرب التهامي وسأله: كيف عرفت ذلك؟
فــأجابه: إنَّ نبرة الحزن، ومرارة الفقد التي رافقت صوتك دَلَّتْ عليك.
نُشِرَ ديوان التهامي في العام 1986م، بشرح وتحقيق الدكتور علي نجيب العطوي، عن دار ومكتبة الهلال ببيروت- لبنان.
ولا تسأل عن مقدار الأسف الذي شعرت به حين وقفت على هذه النسخة المحققة، ومقدار الأخطاء والتصحيف والتحريف وسوء التحقيق التي امتلأ بها الديوان؛ فأفسدته، وقللت الاستفادة منه.
خذ -على سبيل المثال- هذه القصيدة والتي عنونها المحقق مُخطِئًا بـ «يعتصب المجد على نفسه»؛ قالها في مدح الوزير المغربي.
أرحتُ نفسي مِنْ عِداتِ المِلاحْ
لليأسِ رَوْحٌ مثل رَوْحِ النَّجَاحْ
وهي قصيدة رائعة فَاقَ فيها -بحسب رأيي- قصيدة الرضي الحماسية:
نبهتهم مثل عوالي الرِّماحْ
إلى الوغى قبل نُمُومِ الصَّباحْ
قال المحقق في الهامش (2)، ص 82 شارحًا قوله لليأس روح ... إلخ:
"يقول: لقد أرحت نفسي من مصاحبة الحسان؛ لكثرة مماطلتهن. فصبري له روح يدخلها اليأس كما يدخلها النجاح. وفي الأول الحزن، وفي الثاني الفرح.
أقول: هل يظهر شيء من قوله: (فصبري له روح يدخلها اليأس... إلخ)؟
وهل يتضح شيء بقوله: (في الأول الحزن، وفي الثاني الفرح)؟
ومن أين أتى بالصبر، وادعى أنَّ له رُوْحًا يدخلها اليأس؟!
وإذا كان الأمر كذلك، فهل للصبر بعد دخول اليأس قَلْبِ الإنسان- وجود؟!
لا شك أنَّ صاحبنا يهرف، ويجمع بين النقيضين ولا يعرف!
المعنى بِكُلِّ بساطة أنَّ في اليأس راحة للإنسان، كما أنَّ في النجاح الذي يحققه المرء راحةً وغبطة. وقد قيل في المثل: اليأسُ إحدى الراحتين. فالمرء قد يحتاج لليأس أحيانًا؛ حتى يريح قلبه من مرارة الطلب الذي لا جدوى منه.
والرَّوْح -بفتح الراء- بمعنى الراحة، لا بضمها كما توَّهَم الشارح.
ورُبَّما حَكَّمْتُ في مُهجَتِي
نشوانَ مِنْ مَاِء الصِّبَا والمِراحْ
يقول في الهامش (3)، ص82: "كم مِنْ مَرةٍ تَحكَّمَتْ في قلبي فتاةٌ حسناء، فسكرت من ماء الحب والمرح".
والصواب أنه حَكَّمَ وأعطى قياده لحبيبٍ نشوانَ أسكرته خمرة الصِّبا، وزهوه بنفسه، ذاهبًا بها كُلَّ مذهب. ولا شك أنَّ لحداثة السن، ونقص التجربة أثرٌ في مثل هذا السلوك، وقَلَّ أن يسلمَ الغِرّ مِنْ الزهو والثقة العمياء بالنفس.
ثم عَلَّل التهامي سلوك هذا المحبوب المتجني، فقال:
وكيفَ لا تُدرِكُهُ نَشْوةٌ
واللحظُ راحٌ وجنى الريق راحْ؟!
وبنى المحقق في الهامش (4)، ص82 على ما كان أسسه وفهمه من البيت السابق؛ حيث ظنَّ أنَّ النشوان هو المحب لا المحبوب، فقال: "وكيف لا تدرك هذا النشوان سكرة واللحظ من الحبيب كالخمرة تسكر،كذلك الريق منه يُسكِر".
والحقيقة أنَّ الشاعر أراد أن يبرهن على صحة دعواه بأن لا عجب من ذلك؛ فلحظ محبوبه وريقه خمرة أسكرته، وأسكرت كل من ينظر إليه ويترشف ريقه؛ وهذا ما جعله مُنتشيًا مَزهوًا بنفسه.
وقد برهن على هذا وأكد عليه بالبيت التالي، فقال:
لو لم تَكُنْ رِيقِتهُ خَمرةً
لَمَا تثنى عِطْفَهُ وهُوَ صَاحْ
يقول: ألا تراه وهو يهز عطفه متثنيًا ينود به. إذ لا يكون هذا إلا بفعل الخمرة التي فعلت فِعْلها فيه؛ فجعلته يتمايل كالسكران. وهو هنا ادعى أنَّ ريقة محبوبه هي الخمرة ذاتها.
يبسِمُ عن ذي أُشَرٍ مِثلمَا
يلتقطُ الظبيُ بِفيهِ الأقاحْ
***
تُهدِي الصَّبَا ريَّاهُ مِنْ روضةٍ
تُطلُّ أحيانًا وحينًا تُرَاحْ
أنيقةٌ يَجْمعُ أرجاؤهَا
بِيضَ المقاصير وَبِيضَ الأراحْ
قال في الهامش (7)، ص83:" ... تطل: من الطل. وهو المطر الضعيف أو الندى".
وقَصَّرَ وغفل المحقق عن بقية الشرح. ولنأتِ عليه.
يقول: إنَّ ريح الصَّبَا (الجنوب)؛ وهي أرق الرياح وألطفها وأشفاها للمحبين والمحزونين، تهدى عبير هذا الظبي لنا من روضةٍ يقيم بها. وهذه الروضة يصيبها الطل حينًا، وحينًا يُحبَس عنها المطر فلا يصيبها.
ولمَّا كان شبَّه محبوبته بالظبي؛ حسن منه الإتيان بالروضة التي يرعى في خمائلها هذا الظبي.
أمَّا قوله: تُهدِي الصَّبا ريَّاهُ من روضةٍ، فقد أكثر منه الشعراء وأذلوه، ومنه قول ابن شهاب:
تعللنا بِذكرِهِمُ الحُدَاةُ
وتهدينا النَّسائمُ أينَ باتوا
وهذه الروضة الأنيقة تجمع في جنباتها بِيْض المقاصير. أي الفتيات البيض الساكنات في الدور الواسعة المحصنة. وهذا معنى المقاصير. وهذا كقوله تعالى: (بِيْضَ مقصورات في الخيام).
وبيض الأراح. لعل الأراح هنا جمع راحة يقصد بها راحة اليد. وليس هذا وصفًا لهنَّ، وإنما هو وصف لرجالهن الموصوفين بالكرم والجود. فإنَّ المرأة عند العرب تُحمَدُ بالبخل، فلا تكاد تجود على محبها بالوصل؛ وهي بذلك تصون نفسها وتحافظ على عفتها فلا تبتذلها.
ولو درى مَسْرَى الصَّبَا نحوها
سَدَّ من البُخلِ مَسْرَى الرِّياح
يقول في الهامش (9)، ص83: "لو درى بوجودها المتغزل لسد نحوها مجرى الرياح حتى لا تحمل أثرها شيئًا للآخرين غيرة عليها وتمسكا بها".
والذي ظهر لي في بادئ الأمر أنَّ ريح الصبا لو كان يعقل ويدرى بِسُرَاه إليها، لسدَّ كلَّ منفذٍ للرياح الأخرى؛ حتى لا تصل إليها غيرةً منه وظنًّا بها.
أمَّا المعنى الثاني، وهو الأرجح، هو أنَّ الشاعر يتحدث عن نفسه ويعرب عن غيرته على محبوبته في أن تصل إليها ريح الصبا، وأنه لو درى بمسراها نحوها لمنعها من ذلك غيرةً منه عليها.
ولطالما ذكر الشعراء غيرتهم على معشوقيهم: فمنهم من يغار على معشوقته من أبيها وأمها، ويغار من المسواك الذي يقبل ثناياها، ومن الثياب التي تلامس أعطافها.
وقد بالغ ابن هتيمل في غيرته، فأفسد المعنى وأحاله، فقال:
أنا مِنْ ناظري عليك أغارُ
وَارِ عني ما زالَ عنك الخِمَارُ
ولا يقول مثل هذا الكلام إلا مبرسم أو مصاب بوسواس قهري أو فصام.
أمَّا موسى بهران، فدعا على نفسه بالويل حين رأى المسواك كثيرًا ما يتردد على ثغر محبوبته مُقبِّلاً لها، فقالَ في قصيدة له حمينية رائعة امتدح بها الإمام شرف الدين، ومطلعها:
بَاتَ سَميري والبرايا هُجُودْ
بَدرٌ تَجلَّى في ليالي السُّعُودْ
وفيها يقول مخاطبًا محبوبته:
ويلي من المِسْواك ما بالهُ
إلى ثناياكَ كثيرَ الورودْ
كما أنَّ المتنبي تَشَكَّى في إحدى قصائده مِنْ غِيرةِ رسوله الذي كان يبعثه إلى حبيبته، فتعلق بها، وصار لها عاشقًا بعد أن كان رسولاً، وأفضت به الحال إلى خيانته له، وتضييع الأمانة التي حَمَّلها إياه، فيحكى حاله معه قائلاً:
كُلَّمَا عَادَ مَنْ بَعثْتُ إليها
غارَ مني وخَانَ فِيمَا يَقُولُ
وقد طال بنا الاستطراد بشأن الغيرة، فنعود للتهامي:
كم مَرةٍ أعْجَزنَا بُخْلُهُ
فَساقهُ النُّومُ إليَنا سِفَاحْ
أقول: تصحف البيت وتحرف من (بُخلُهُ) إلى (حَلُّهُ). ثم قال المحقق في الهامش (10)، ص83: "سفاح: زنا. المعنى يقول: كم مرة عجزنا عن الوصول إلى المحبوبة، فجاءت لنا في الأحلام لنحقق في الأحلام ما عجزنا عن تحقيقه في اليقظة".
أقول: أعيتني الحيلة في فهم لفظة (حله) المحرفة في البيت. وكنت ظننت في أول الأمر أنَّ قبل هذا البيت سقطًا، وأنَّ لفظة (حله) يقصد به حل الإزار المذكور في بيت سابق بحسب ما توهمت، وأنَّ هذا العاشق قد جهد لمرات كثيرة أن يَحُلَّ إزار محبوبته فتمنعت عليه، ثم إنه ظفر بها في منامه حين زارته، فضاجعها سِفاحًا. وذكرت بهذا بيتي ابن هتيمل، فتأكد لي ما ذكرته سابقًا مِنْ اختلال عقل ابن هتيمل؛ وذلك في قوله:
صُنْ مُحيَّاكَ بالنِّقَابِ وإلا
نَهبتهُ العُقولُ والأبصارُ
فَمِنَ الغَبنِ أنْ يُماطَ لِثامٌ
عن مُحيَّاكَ أو يُحلَّ إزارُ
إلا أنه مع شيء من تقليب بيت التهامي على وُجُوهٍ مُختَلفِة، وبقليل من ترديد النظر في معناه؛ ظهر لي أنَّ لفظة (حله)، ليست إلا تحريفًا وتصحيفًا عن (بخله).
ومعنى البيت على وجهين؛ الأول: أنَّه لطالما بَخِلَ نَسيمُ الصبا بحمل عبيرها إلي، فَقامَ النوم بالتكرم، فساق إلي طيفها؛ فقمت بمضاجعتها سِفَاحًا.
والثاني: أنَّ الضمير في (بخله) يعود على محبوبته التي تتمنع عليه، فيجود عليه المنام بها فيضجاعها فيه. فما لم يأخذه العاشق باليقظة ظفر به في النوم. وهذا المعنى هو الأنسب والأصوب برأيي.
ثم قال:
أفْلتَهُ مِنِّي وقد صِدتُهُ
بِرقْدةٍ مِنِّي مُنادي الفَلاحْ
يقول: إنه باتَ وقَضَى ليلته مع محبوبته مضاجعًا لها في النوم، ولم تفارقه إلا حين هتف المؤذن مُعلِنًا دخول الصباح. وهذا يذكرنا ببيتي المتنبي، إلا أنَّ الأدوار انعكست بين الزائر والمزور في بيت التهامي وبيت المتنبي القائل:
كم زورةٍ لَكَ في الأعرابِ خَافيةٍ
أدهى -وقد رقدوا- مِنْ زَورَةِ الذِّيبِ
أزُورُهُمْ وَسَوادُ الليل يشفعُ لي
وأنثني وَبَياضُ الصُّبْح يُغْرِي بِي
كما أنَّ المتنبي زار محبوبه يقظة – بخلاف الطيف الذي زار التهامي-؛ وذلك عند غفلة الأعراب ونومهم عنه.
لكن التهامي أبدى زهدًا في هوى الغانيات، وذلك في قوله بموضعٍ آخر:
فَدعْ ذِكرْ سُعْدَى إنَّ فِيكَ بقَيةً
إلا إنَّما يبغي المَهَا مَنْ يَصِيدُهَا
وبهذا يتبين أنَّ التهامي كان أسعد بلقاء محبوبه، وأوفر حظًا من الضرير القيرواني صاحب الأبيات السائرة التي غنتها فيروز، وهي:
يَا لَيلُ الصبُّ مَتى غَدُهُ؟
أقِيَامُ السَّاعةِ مَوعِدُهُ؟!
وفيها يقول:
نَصَبتْ عَينايَ لَهُ شَرَكًا
في النَّوْم فَعزَّ تَصيُّدُه
وقد عارضها شوقي بقصيدته:
مُضْنَاكَ جَفاهُ مَرقدُهُ
وَبَكَاهُ وَرَحَّمَ عُوَّدُهُ
وممن عارضها من أدباء اليمن وعلمائها: السيد العلامة الأديب الشاعر الكبير أحمد بن عبد الرحمن صايم الدهر (ت: 1272هـ)، والعلامة الأديب محمد بن المساوى الأهدل (ت: 1266هـ)، وقد سَمقَ فيها صايمُ الدهر صديقَهُ محمدَ بن المساوى وبَذَّه بقصيدته التي يقول فيها:
صَبٌّ على البينِ لا يَقوَى تَجَلُّدهُ
يُقِيمهُ الشُّوقُ لِلُّقَيا وَيُقعِدُهُ
أمَّا محمد بن المساوى، في قصيدته التي ابتدأها بـ:
زَارَتْ فتىً مَنْ لَهُ بالليلِ مَرقدُهُ
وَتِلكَ بُغيتهُ القُصْوَى وَمَقصَدُهُ
فقد أسفَّ، ولم يَأتِ إلا بالمتكلف المرذول مِنْ القول، والتافه مِنْ المعنى، بقوله: إنها زارت فتىً مرقدهُ الليل!
ومتى-بالله عليك- يكون النوم؟!
وأيُّ عاشقٍ هذا الذي يعتاد النوم بالليل؟!
ثُمَّ إنَّه تَعسَّفَ من ناحية اللفظ بإتيانه بجملة الصلة المبتدئة بـ «مَنْ»، وصفًا لـ «فتى»، ورَكِّبها تركيبًا قَلقًا لا أثر فيه لأي تلاؤم أو انسجام؛ وهو تركيب في غاية الرِّكَّة والاختلال، ولا أظنه يستقيم من ناحية النحو والمعاني، فضلاً عن بُعْدِه عن مجاري الفصاحة والبلاغة.
وما مَرَّ بسمعي قَطّ، ولا وقفت على كتاب في النحو أو بيت من الشعر يصف فيه النكرة بالأسماء الموصولة.
وإذا ما صوبنا النظر ونثرنا المعنى الذي يرمي إليه، تَبينَ لنا الفرق والاعتلال الظاهر في البيت من ناحيتي اللفظ والمعنى. فهو أراد أن يقول: إنها زارت فتىً مرقده بالليل. فأين هذا المعنى -على ما فيه من اعتلال- مِمَّا ذكره في صدر البيت أنها: زارت فتى مَنْ (الذي) لهُ مرقده بالليل؟!
هذا والله ما لا يستقيم بحال.
وأي فائدة عظيمة جاءنا بها، وبهذه الصورة السقيمة الركيكة؟!
إنَّ ترك الشعر لأفضل بألف مرة من الإتيان بمثل هذا الكلام المخيط بالصميل.
وقد أبانَ محمد بن المساوي في هذا البيت عن ضعفِ هِمتهِ أو قُنُوعِه حِينَ جَعلَ مِنْ زيارة طيف من يحب في منامه غاية ما يتمناه ويصبو إليه.
وإني لأخشى أنَّ الأستاذ عبد الله خادم العمري -رحمه الله- حرف البيت الذي أورده عن محمد بن المساوى، وأنَّ أصله على النحو التالي:
زَارَتْ فتىً مَلَّهُ بالليلِ مَرقدُهُ...
وهذا هو اللائق بمحمد بن المساوى. فـأستغفر الله من التهجم بغير علم، والانتقاد دون تثبت.
ولطالما تساءلت: لماذا عَدلَ الحصري القيرواني عن الإضافة في خطابه لليل إلى الإفراد. فرفع الليل، ثم شرع مبتدئًا بالسؤال عن حال (الصبِّ)؛ فلم يقل: يا ليلَ الصبِّ -بفتح الليل، وجر الباء في الصبِّ- على الإضافة؟ وجاء بها على الرفع: يا ليلُ، ثم سؤاله عن الصبِّ: متى يأتي غده الذي طال ترقبه له.
ثُمَّ ظَهرَ لي أنَّ المعنى الأول أدق وأصوب؛ فهو يخاطب الليل الذي أسْدَفَ عليه بِكُرَبِهِ وأوجاعه، ويسائله عن صباحه الذي طال انتظاره له؛ متى عساه يأتي؟
فليس الصبُّ في هذا السياق إلا نفس الشاعر المشتاقة والمثقلة بهموم الليل ووحشته ومعاناته، بخلاف العموم الذي يفيده ويدل عليه معنى الإضافة، وهذا ما لا يقصده الشاعر.
(وللحديثة بقية).