بين تيارين يتشكّل الجدل اليوم في صنعاء بشأن معركة غزة. التيار الأول يرى أن كل صوت يتحدث عن الإصلاح الداخلي أو ينتقد الوضع المعيشي هو صوت مشوِّش أو "مُخذّل"، ويعتبر أن الأولوية المطلقة الآن يجب أن تُمنح للإسناد العسكري والسياسي للمقاومة الفلسطينية فقط، حتى لو كان الثمن مزيدًا من التآكل الاقتصادي والانقسام الداخلي.
أما التيار الثاني، فلا يُنكر قدسية القضية الفلسطينية، ولا يقل حماسًا في دعمها، لكنه يطرح سؤالًا جوهريًا:
ما قيمة الإسناد الخارجي إذا كان الداخل يتّجه نحو مزيد من الانهيار والانقسام؟
هذا التيار لا يرفض الإسناد، بل يريده أقوى وأطول نفسًا، قائمًا على قاعدة داخلية صلبة قادرة على التحمل، وعلى مشروع وطني متماسك يمنح المعركة بعدها الحقيقي.
الفارق بين التيارين ليس في الانتماء ولا في الالتزام بالقضية، بل في رؤية المشروع الوطني:
– الأول يرى أن كل نقد للوضع الداخلي يُضعف المعركة.
– الثاني يرى أن تجاهل الداخل المتصدع هو ما يُضعف المعركة حتمًا، ولو بعد حين ويرى ان التيار الاول ربما يتهرب من خلال الإسناد عن الاستحقاقات الداخلية .
في هذا السياق، انتشر مؤخرًا منشور لأحد قيادات "أنصار الله"، تحدّث فيه عن بكائه على طائرات "أسطول اليمنية" التي دمّرتها إسرائيل في مطار صنعاء، وتوعّد بأن الكيان في المستقبل سيدفع ثمنًا بالمحصلة النهائية يفوق قيمة تلك الطائرات.
لكن بدل أن يثير المنشور مشاعر الانتصار، فتح بابًا واسعًا للأسئلة الصعبة:
لماذا لا يكون الرد مباشراً وبالمثل؟
لماذا لا يُقابل العدوان بعدوان، بمنطق "العين بالعين والسن بالسن"؟
ولماذا يُطلب من الشعب تقبّل الخسارة دون أن تُقدَّم له إنجازات ملموسة ومقنعة؟
في المقابل، تداول ناشطون صورة مؤلمة لامرأة تبحث عن الطعام في القمامة وسط صنعاء، مرفقة بتعليقات ساخرة: في محصلتها تحمل ما معناه "هذا هو الثمن غير المرئي للإسناد".
الصورة لم تكن هجومًا على فلسطين أو مقاومتها او رافضة لمبدأ الإسناد ، بل صرخة ضد السياسات التي جعلت الداخل يدفع فاتورة غير متناسب ، في معركة مفتوحة لم تُحسم نتائجها بعد، لكن مسارها الحالي وتكلفتها المتزايدة يدعوان إلى القلق… بل ويدفعان نحو رفع الأصوات المطالبة بالمراجعة والإصلاح.
والمفارقة المؤلمة أن من يرفضون مجرد الحديث عن الجبهة الداخلية تحت ذريعة "أولوية الإسناد"، يتجاهلون — أو يتعمدون تجاهل — حقيقة واضحة:
الانهيار من الداخل هو أكبر هدية تُمنح للعدو.
فهل يمكن لوطن جائع وممزق أن يخوض معركة طويلة الأمد؟
وهل من الحكمة الاستمرار في تكرار الأخطاء، وتكريس الواقع بدل إصلاحه؟
الانتصار لا يُقاس فقط بصاروخ أو مسيّرة تُطلق، بل بوطن يصمد، ومواطن يشعر أن له كرامة ومستقبل.
المعركة الكبرى يجب أن يكون الإسناد جزءًا منها، لا كلّها.
المعركة الحقيقية أيضًا في مواجهة الانهيار الاقتصادي، والأسواق الفارغة، والبنية التحتية المدمرة، والبطون الخاوية، والأهم: في إصلاح سياسي جذري يعالج الانقسام ويؤسس لوطن يتسع للجميع.
الإسناد واجب… لكن تجويع الشعب خيانة.
لهذا نقول:
لتسِر المعركتان معًا — معركة الإسناد، ومعركة بناء الداخل.
لأن تحويلها إلى خيار إجباري: "إما هذه أو تلك"، لن يؤدي إلا إلى الفشل في كلتيهما.