صنعاء 19C امطار خفيفة

المهاجل اليمنية: فن جماعي لا يقبل التخصيص الجندري

المهاجل اليمنية: فن جماعي لا يقبل التخصيص الجندري
طفل وإمرأة ريفية(منصات التواصل)

المهاجل فن شفاهي شعبي ارتبط منذ القدم بالأنشطة الزراعية في اليمن، وأدّاه الفلاحون – رجالًا ونساء – خلال مواسم الزراعة المختلفة، لتأدية أدوار متعددة تتراوح بين التعبئة والتحفيز بالنسبة للفلاح والتعبير الوجداني في أحيانًا أخرى من أجل إنجاز العملية الزراعية المحددة والتي تتطلب جهوداً بدنية كبيرة يبذلها المزارع اليمني.

 
تحت عنوان "مهاجل المرأة اليمنية في الريف"، كتب الأستاذ زيد الفقيه مقالة نشرتها منصة خيوط في التاسع من أبريل عام 2021، تناول فيها فن المهاجل بوصفه فنًا نسويًا محصورًا بموسم زراعي واحد هو "العلان"، معتمدًا على أداء جماعي نسائي فقط، ومُحمّلًا هذا الفن بُعدًا وجدانيًا على حساب أبعاده العملية والزراعية. وبوصفي باحثًا ميدانيًا وثّق هذا الفن في ريف الحجرية بتعز، أجد أن المقالة وقعت في عدد من الاختزالات والانطباعات الشخصية التي تتطلب تصويبًا مبنيًا على التوثيق والمعاينة الحية.
 

1. المهاجل فن زراعي لا يختص بجنس دون آخر

 
أبرز ما يجب توضيحه أن المهاجل ليست حكرًا على النساء، كما جاء في المقال. فهذا الفن نشأ في المجتمع الزراعي القديم، وكان مرتبطًا بالعمل اليومي الشاق الذي اضطلع به الرجال غالبًا، إذ كانت العمليات الزراعية الكبرى، تاريخيًا، تقع في الغالب على عاتق الرجال، نظرًا لطبيعتها البدنية الشاقة. ومع ذلك، شاركت النساء في الكثير من الأعمال الزراعية، مما يجعل من المهاجل ممارسةً فنيةً مشتركة بين الجنسين، دون أن تختص بجنس دون آخر.
إمرأة تعمل في الزراعة مع زوجها( منصات التواصل)
وفي كتابي (أصوات من الماضي)، أوضحت بجلاء أن المهاجل فن جماعي يردده الفلاحون، كانوا رجالًا أو نساء، ويتقدمهم أحدهم بصوته العالي قائلًا مثلًا:
"مروحه وليله دان"
ثم يضيف بمقطع خاص:
"ألفين صراع وألفين غراب"
ليُعيد الباقون بعده:
"مروحه وليله دان"
وهو نمط شائع في مختلف مناطق ريف الحجرية. وذلك لا يمنع أن تُردّد المهاجل أيضًا من قبل فرد واحد، سواء كان رجلًا أم امرأة.
لذا فإن القول إن هذا الفن "ارتبط بالنسوة" أو أنه "من العيب أن يشلّه" رجلٌ بصوته، كما ورد في مقالة الفقيه، هو حديث يفتقر إلى الدقة التاريخية والتوثيقية. فالمهاجل ليست فنًا نسويًا خالصًا، حتى وإن استفرد الفقيه بعضًا من النصوص لتأكيد هذا التخصيص. وإن كانت النساء قد شاركن فيه لاحقًا أو برزن في بعض المواسم، فإنه لم يكن حكرًا عليهن في أي فترة زمنية.
 

2. المهاجل لا تقتصر على موسم "العلان"

 
حصر المقالة للمهاجل في موسم "العلان" الزراعي فقط، دون غيره، فيه تجاهل لطبيعة هذا الفن وتعاقب أدائه الزمني طوال العام. فقد جاء في المقال:
 "وترتبط مهاجل المرأة اليمنية في الريف بحقبة زمنية محددة هي المساحة الزمنية التي يكون فيها الموسم الزراعي قد وصل إلى مرحلة يطمئن فيها المزارع على خراج الأرض بأنه مبشرٌ بالخير..."
 
من خلال رحلاتي الميدانية بين قرى وعزل ريف الحجرية، خرجت بكتاب (أصوات من الماضي)، وثّقت فيه المهاجل عبر تسجيلات صوتية نشرتُ منها بعض المقاطع في صفحتي الشخصية على فيسبوك، ووزعتها بحسب العمليات الزراعية، بعد مراجعة عدد من الباحثين مثل الأستاذ عبدالهادي العزعزي (وكيل وزارة الثقافة للتراث اللامادي)، والباحث محمد سلطان اليوسفي وبعض الباحثين والمهتمين في التراث اللامادي.
وقد صنفت المهاجل إلى ستة أقسام زمنية مرتبطة بالعمليات الزراعية: (البتل – النضاح – الذري)، ثم الفقح، الكحيف، فالجلب، فالتسئيير، ثم الصراب والقحز ، واللبيج ".) و كل عملية منها لها مهاجلها الخاصة، والتي تُؤدى في سياقها الزمني الزراعي، مما يؤكد أن المهاجل تُردد على مدار السنة، وليس فقط في موسم "العلان".
 
3. المهاجل فن تعبوي تحريضي أكثر من وجداني
 
ليست المهاجل أداة تعبير وجداني فقط، كما ذهب الكاتب، بل في جوهرها فن تحريضي تعبوي يُشعل الحماسة، ويدفع الفلاحين لبذل الجهد في الحقول. وهذا ما يفسر طابعها الإيقاعي القوي ولازماتها المتكررة، التي تُؤدى بأصوات رجالية أو نسائية لتحفيز النشاط البدني في سياق العمل.
 
  • نموذج أ – من المهاجل التي تقال عند عملية البتل والذري :
"هي بالله دانه ياليل به ما الليل
وأنا عبده من حن ورعد ليل به الليل
قوى الباتلين يا ليل به ما الليل
عانكن الله يا ليل به ما الليل".*صفحة 173 -كتاب أصوات من الماضي.
  • نموذج ب – من المهاجل التي تقال عند عملية الكحيف والفقح:
"ألا حالي بروده
برود الله بروده
ألا يالله تبرد
وتغير على البلود .
ومعين الوحيدة
المهر الشديدة
وا معينني وحدي
أني والذي جنبي
وجنب اللي جنبي.
ألا يالله بروده
برود الله بروده
عانكن يا الاواليد
قوا كن يا الاواليد
هداكن يا الاواليد
رزقكن يا الاواليد
ستركن يا الاواليد ..". صفحة 179-180 - كتاب أصوات من الماضي.
وفي حين أن بعض النصوص قد تتضمن إشارات وجدانية، فإن هذا ليس جوهرها، ولا تُبنى غالبية المهاجل على أساس ذلك.
 

4. المهاجل لا تُحصر بزمن معين

 
قال الأستاذ الفقيه:
 "وتُحصر هذه المهاجل بزمن معين هو زمن العلان... ثم يطويها النسيان وتستعاد في العام الذي يليه."
وهذا قول غير دقيق ميدانيًا. فالمهاجل تُقال على مدار السنة الزراعية، ولها نصوصها المختلفة بحسب كل عملية. مثلًا، من مهاجل التقريب الأولي للزراعة (النضاح – البتل – الذري):
"هو روبه جليل
طلع السحايب
مسود وغائم
لك الحمد يا باري
عدد الليالي
هو روبه جليل " الصفحة 177 -كتاب أصوات من الماضي.
 

5. مساهمة المرأة حقيقية لكن لا تعني الحصرية

 
وصف الفقيه المهاجل بأنها من "ابتداع النساء"، وأن الرجل لا يشارك إلا في حالات الضرورة. وهذا توصيف عاطفي لا يتوافق مع السياق التاريخي للفن. فالمرأة اليمنية – رغم مكانتها – لم تكن الصوت الغالب في مشهد الزراعة الجماعي في مراحل النشوء الأولى.
نعم، هناك مشاركة نسوية واضحة، خاصة عند جني المحاصيل، لكن لا يمكن بناء تصور أن هذا الفن نسوي في أصله. إنه فن جماعي مشترك بين الجنسيين ونشأ معهما ، أدّاه الرجال والنساء معًا بحسب السياق والموسم.
 

6. المهاجل تُؤدى منفردة أيضًا.. والصيغ الجماعية ليست حصرية

 
أشار الأستاذ الفقيه إلى أن المهاجل تؤدى مثنى مثنى أو ثلاثًا ثلاثًا، وهذا توصيف غير دقيق إذا ما خضع للنماذج العملية الميدانية. فالكثير من المهاجل تُؤدى فرديًا، من قبل رجل أو امرأة واحدة، مثل:
"الله خلق حواء وآدم
والجرادة والجدم
ياللي خلقت الرزق تسوقه
وا كريم توافقه
الله خلق حواء وآدم
والجرادة والجدم
يا أنا على قلبي من الدوود
ومن أضياق اللحود
يا أنا على قلبي هويته
والهوى مو دلته .." صفحة 192 - كتاب أصوات من الماضي.
وكثيراً ما تُؤدى بصوت فردي، وإن كانت الصيغة الجماعية لا تزال هي المستخدمة أيضاً في الغالب ولكن من الصعب احتكار التأدية للمهاجل عند فرد أو مجموعة فكلاهما يتمهجل وفي أوقات متفرقة.
 
في الختام:
 
نُقدّر اجتهاد الأستاذ زيد الفقيه في لفت الانتباه إلى الموروث الشعبي، إلا أن فنًا متجذرًا مثل المهاجل لا يمكن دراسته خارج سياقه الزراعي والاجتماعي، ويستلزم توثيقًا ميدانيًا دقيقًا يوازن بين الأداء الوجداني والوظيفة العملية، بعيدًا عن التعميم أو الانطباع.
 ملاحظة: النصوص المذكورة في هذه المقالة مأخوذة من كتابي (أصوات من الماضي) الصادر عام 2024، وهو نتاج مشروع فردي نلته ضمن برنامج منح "مسارات اليمن 1" الممول من المجلس الثقافي البريطاني بالشراكة مع مؤسسة حضرموت للثقافة.
 
تعريف المصطلحات الزراعية:
 
1. موسم العلان:
هو المرحلة الأخيرة من نضوج السنابل، وتحديدًا حين تبدأ السنابل بـ"الإعلان" عن نُضجها وتغير لونها إلى الأصفر الذهبي، إيذانًا بقرب الحصاد.
حيث يُقال في اللهجة الزراعية "علنت السنابل"، أي ظهرت علامة نضوجها.
2. النضاح:
عملية تجهيز الأرض وتهيئتها لأجل الزراعة مثل : إزالة الحصى العالقة على مستوى التربة وإزالة المخلفات البلاستيكية إن وجدت ..".
3. البتل:
وتعني القيام بعملية تسوية الأرض بعد أن تكون قد حصلت على مياه الأمطار الخفيفة.
4. الذري:
نثر البذور (غالبًا الحبوب كالذرة والقمح) في الأرض قبل دفنها بالتربة.
5. الفقح:
  تهوية التربة حول النبتة بعد إنباتها، لتقويتها وتسهيل نموّها وإزالة النباتات الضعيفة المجاورة للنبتة الأصلية.
6. الجلب:
تحريك وتجميع التراب وتجهيزها على شكل أحواض زراعية بحيث تكون النبتة محاطة بكمية كبيرة من التراب من أجل تجميع المياه والحفاظ على" الزرع" من الرياح القوية .
7. التسئيير:
إزالة الأوراق الصفراء من على " الزرع "لأجل نمو الثمرة بشكل مكتمل.
8. الصراب:
جمع المحصول بعد جفافه، وتكديسه على شكل "صراب" أو أكوام مخروطية، غالبًا في ساحة البيت أو أسطح المنازل.
9. اللبيج:
عملية فصل الحبوب عن السنابل، وهي آخر العمليات الزراعية.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً