صنعاء 19C امطار خفيفة

شعارات كاذبة خاطئة قاتلة

مِنْ أسوأ ما انطوى عليه المنهج الذي درسناه، هو إضاءة بقعة واحدة من تاريخنا، وبقيت بؤر كثيرة في بحر من الظلمات، أضْرِبَ عنها صفْحًا، وغُضَّ عنها الطرف، وخُتِمَ عليها بالشمع الأحمر (سِرِّي للغاية).

 
ما تَمَّ حقن أدمغتنا به هو الحلو لا المر، والجمال لا القبح. إنه الكمال المطلق الذي لا يعتوره نقصان، والخير الذي لا تشوبه شائبة شر. إنها اليوتوبيا التي يشتاقها الإنسان ولا يصل إليها إلا في أحلامه.
ومع قدر ضئيل من القراءة، يتضح أننا ضيعنا وقتًا ثمينًا في أوهام لا حقيقة ولا وجود لها إلا في أذهاننا فقط، أمَّا العالم الخارجي فلا يمت لها بصلة مِنْ قريب أو بعيد.
يدرك هذا ويخبره حتى الإنسان العادي المتخفف من أثقال الديانات والاعتقادات والمذاهب والأيديولوجيات.
كُلُّ الدعوات والقيم العظيمة التي حملها أصحاب الرسالات من الأنبياء والمرسلين والمصلحين ما لبثت أنْ أخذت منحىً آخر، وسلكت مسلكًا مغايرًا.
ولم يصور هذا -بصدق- كما صوره الشاعر البرتغالي فيرناندو بينسوا حين قال في قصيدة له، إنَّ "الحلم الذي يتحقق يتحول إلى سلطة غاشمة".
كم كان فيلم الرسالة الذي أخرجه العقاد، وقام بتمثيله كبار ممثلي الشاشة المصرية الذين جعلونا مبهورين، مملوئين بالاعتزاز والفخر بانتسابنا لهذا الدين الداعي لكل القيم العظيمة.
وكنت معجبًا بالدور الذي قام بتمثيله الفنان الكبير عبدالله غيث، مؤديًا دور حمزة وتصوير شجاعته، وبالممثل الذي أجاد أداء دور بلال بن رباح ومكابدته وصبره وثباته كشخص مستضعف متمسك بمعتقده في مواجهة الظلم والطغيان والاضطهاد.
ما كان أشد اعتزازنا بالأخوّة التي كانت تضم كل هؤلاء المؤمنين المشمولين بدثار من المحبة والإيثار والتعاطف. فمازال صوت بلال، وهو يصدح تحت التعذيب: "أحد أحد"، يسكننا حتى الآن.
لكن أين مصير بلال بن رباح بعد ذلك؟!
وأين مصير "أحفاد بلال"، إن صح أنهم أحفاد بلال؟!
طبعًا هذا لم يصح، ولن يصح أبدًا إلا بالشعار الذي يُرفَع باسمهم الآن.
يا قومنا، أحفاد بلال لا يمكن لواحد منهم في وطننا هذا المنكوب بِحُكَّامِه، أن يقود بابور قمامة. فبابور القمامة خاص بالرجل الأبيض فقط.
قبيلة يمنية من آل السباعي تتبرأ من فرد منهم كونه تزوج من فئة اجتماعية ينبذونها ويحتقرونها.
وأين مصير سعد بن عبادة زعيم الخزرج الذي دُعِي إلى قتله جهارًا بسبب ترشحه للخلافة: (اقتلوه قتله الله)، ومات في ظروف غامضة في حوران بالشام، بعد أن أخرج من بلدته عقب نزاع السقيفة، والخلاف على من يخلف النبي صلى الله عليه وسلم؟
يذكر الطبري في تاريخ (الأمم والملوك) في حديث السقيفة، ورغبة الأنصار في تولية زعيمهم سعد بن عبادة، وما كان من النزاع بين المهاجرين والأنصار بشأنها، أنَّ عمر بن الخطاب قال: فلمَّا رأيتهم -يعني الأنصار- يريدون أن يختزلونا ويغصبونا الأمر!".
ويختزلونا بمعنى يقتطعونا ويأخذوا مِنَّا الحكم، وينفردوا به دوننا. وقوله: يغصبونا الأمر: يعني أنَّ الأمر خاص بهم، وهو لهم وحدهم، والأنصار يريدون اغتصابه. هكذا يقول الشراح.
ولولا أنَّ الأنصار في ذلك الوقت كانوا مؤمنين حقًا، لكانوا كفروا بالله وبالنبي وبكل شيء. وقالوا: ليتنا سمعنا كلام عبدالله بن أبي بن سلول. فزعماء قريش بعد موت النبي، غلبتهم على أرضهم، وأخرجت كبار رجالهم، وأرغمتها على مفارقة ديارها، ثم قامت بقتلها، ولم يكمل الزمن دورته حتى اكتسح الجيش الأموي أرضهم وقتلهم واغتصب نساءهم وأرغمهم على المبايعة للخليفة يزيد، وأنهم أقنان له.
لكن عصم الله على قلوب الأنصار بالإيمان الذي ملأ قلوبهم، وعرفوا أنَّ التاريخ بدأ يتخذ مسارًا آخر.
فما الفرق إذن بين هذا التفكير في عصور النور والفضيلة مع تفكير الإمام عبدالله بن حمزة، فالذي يدعي الخلافة من غير البطنين بحسب رأيه: (يقطعون لِسْنَه مِنْ فِيْهِ* ويؤتمونَ جهرةً بنيهِ* إذا صارَ غيرَ الحق يدعيهِ)، أو علي عبدالله صالح، أو عبدالله الأحمر صاحب نظرية الأصل (الشمال)، والفرع (الجنوب)؟!
هذا هو مفهوم السلطة بالنسبة للعرب والمسلمين، فالذي يتولى من طائفة أو قبيلة أو منطقة أو مذهب أو دين، يقوم باختزال غيره وإقصائه وتنحيته وتصفيته أيضًا.
كان الخليفة العثماني بمجرد توليه يقوم بقتل إخوانه. ويقول أحدهم مبررًا ذلك: إنَّ الله كما أنه واحد في سمائه، فلا بُدَّ أن يكون خليفته في الأرض واحدًا لا شريك له".
فهذا الخليفة يشبه نفسه برب العزة. وهذا فعلًا هو الحاصل، والشواهد كثيرة لا يأتي عليها التمثيل وكثرة سرد الوقائع.
يذكر البلاذري في (فتوح البلدان) أنَّه تَمَّ في حروب الردة حرق مرتدين.
فما الفرق إذن بين مسلم يحرق مرتدًا فارق دينه باختياره، أو كان له رأي في الزكاة بأنها لا تؤدى إلا إلى النبي وحده؛ ليطهرهم ويصلي عليهم ويدعو لهم، وبين كافر مثل أبي جهل أو أمية بن خلف يعذب بلالًا ليرغمه على الرجوع إلى دينه الذي فارقه حين لم يعد مُقتنِعًا به؟!
نعم اتضح لي الفرق الآن. إنه الشعار الذي نحمله وندين الله به، ويحمله غيرنا أيضًا من أي دين أو ملة أو مذهب. فالشعار الذي نحمله؛ وهو الإسلام، يبيح لنا مثل ذلك. فنحن -معاشر المسلمين، أو السادة، أو المشايخ، أو القبائل- يجوز لنا ما لا يجوز لغيرنا.
الأكثر سوءًا في هذه المقارنة أنَّ المسلمين فعلوا في حروب الردة ما لم يفعله كفار قريش بتعذيبهم المسلمين في رمضاء مكة بالسياط، ووضع الأحجار الثقيلة عليهم، ومع ذلك فلم يجسروا على تحريقهم.
هل يتصور أحدٌ هذا؟!
نبكي على الأندلس وضياع الخلافة الإسلامية التي كانت تُمطِر ذهبًا للحكام بالخراج والإتاوات التي تساق إليهم، فيما يموت الرعية جوعًا، ويعانون التفرقة والتمييز والظلم والأثرة.
نغضب من دعوة البربر وكفرهم بالعرب والعروبة. ولا ندري أنَّ هذه الجيوش الغازية ما إن انتهت من غزو الأندلس حتى استأثر العرب بالنصيب الأكبر من المناطق الخصبة والخيرات الدارة في الجهات الشرقية والجنوبية، وأنزلوا إخوانهم في الله والدين والإسلام (البربر) الذين كانوا يمثلون ثلثي هذا الجيش آنذاك، في الجهات الوسطى والشمالية حيث الجفاف والبرد، وتحمل كُلفَة وأعباء مواجهة الأعداء المحادين لهم وحدهم.
وهكذا حال الأكراد في ظل الأنظمة القمعية والمستبدة في تركيا وإيران والعراق وسوريا.
والشعار الذي حمله الصليبيون أجاز لهم ارتكاب الفظائع والجرائم في المشرق العربي.
والشعار الذي حمله بوش لجلب الديمقراطية إلى العراق، دمره به وفككه وأجهز عليه. ولا شك أنَّ صدام ودكتاتوريته وطغيانه كان عاملًا أساسيًّا وسببًا رئيسًا في كل هذا الخراب الذي لحق بالعراق.
والشعار الذي يحمله الصهاينة هو الذي يبيح لهم ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية والتجويع في غزة.
وشعار الفضيلة والحشمة والآداب العامة التي كانت تتشدق بها السعودية والوهابية، بررت لها حبس امرأة شابة قامت بقيادة سيارة لسنوات، لتخرج بعد ذلك شبه خيال امرأة.
وشعار الموت لأمريكا واللعنة على اليهود والنصر للإسلام والتصدي للعدوان، أجاز كل أفعال القمع الذي يمارسه الحوثيون في حق المواطن اليمني، ومنها حبس انتصار الحمادي، ولبيب شايف، وعدنان الحرازي، والوزير، ويبرر كل الانتهاكات التي ترتكب في الداخل ضد هذا المواطن.
إنَّ التمسك بالشعارات الفارغة، ونظرية: "إمَّا كُلّ شيء أو لا شيء"، سيؤدي بالبلد إلى كارثة محققة، كما يقول الدكتور أبو بكر السقاف، رحمه الله، وسيصير بنا إلى المصائر التي صارت إليها، وساقنا لها الحكام الطغاة في سوريا والعراق وليبيا والسودان.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً