إن استمرار حرب الإبادة والتطهير في قطاع غزة، وما رافقها من سياسات تهجير قسري وحصار وتجويع، مع استمرار استهداف المستشفيات وحرق المخيمات فوق رؤوس ساكنيها من مهجرين ومضطهدين، فلم يبقَ هناك متر واحد آمن في غزة، أقل ما يوصف به أنه وصمة عار في جبين الإنسانية والعالم الذي عجز عن وضع حدٍّ لدولة الاحتلال ومن يدعمها بأي شكل من الأشكال.
لم تتوقف الأخبار اليومية عن قتل العشرات من الضحايا الأبرياء بنيران قوات الاحتلال، وبرصاص القوات التي زعمت الولايات المتحدة أنها طوق النجاة من الموت للفلسطينيين في غزة، والتي تقتل بدلًا من سدّ رمق الموجوعين، وبينهم الأطفال والنساء.
وفي الوقت الذي تتضاعف فيه مأساة غزة، يواصل الاحتلال الإسرائيلي سياسات القتل لثقته بأن هناك من يسنده للإفلات من العقاب، وإلى جانب سياسة الغطرسة الرسمية، كشف ياريف ليفين، وزير العدل الإسرائيلي، عن الوجه القبيح للاحتلال بدعوته إلى ضم الضفة الغربية المحتلة إلى إسرائيل، لأن هذا هو أنسب وقت للضم. وزير اللاعدل استغل الإضعاف الإسرائيلي الممنهج للسلطة الفلسطينية، وانشغال العالم بالمجازر في غزة، ليدعو إلى فرض واقع استعماري جديد، ضاربًا عرض الحائط بحقوق الفلسطينيين وبالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
إن هذه التصريحات ليست عابرة، بل تعكس التوجهات الحقيقية لحكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة، التي لا تؤمن بالسلام، وتواصل فرض الأمر الواقع بالقوة، غير آبهة بالعواقب الكارثية التي تهدد أمن واستقرار المنطقة بأكملها.
وفي مواجهة هذه السياسات العدوانية، جاءت المواقف العربية رافضة بوضوح، إذ أدانت جامعة الدول العربية على لسان أمينها العام أحمد أبو الغيط، هذه التصريحات، واعتبرتها "بلطجة" سياسية واعتداء سافرًا على حقوق لا يمكن القفز عليها بالاستيطان والضم وبالقوانين الدولية. كما جددت عدة دول عربية، وعلى رأسها مصر والسعودية، رفضها القاطع لأية محاولات لضم الضفة الغربية، باعتبارها أرضًا فلسطينية محتلة وفقًا لحقائق التاريخ الذي لا يمكن تجاوزه، وللشرعية الدولية.
إن ما يجري اليوم في غزة والضفة، بل في عموم الأراضي الفلسطينية وخارجها، يؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي ماضٍ في مخططاته الصهيونية التوسعية التي لن تتوقف عند حدود غزة والضفة، بل ستطال دول المنطقة بأسرها، في سياق مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي أقرّه المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897.
إن الوضع الراهن يتطلب مواقف عربية ضاغطة على الولايات المتحدة بالذات باستخدام كل ما تملكه من أدوات، مقتدين بسابقة وقف تصدير النفط عام 1973 عندما كانت الدول العربية النفطية أقل شأنًا وغنى.
إن كل دول العالم تستخدم أوراقها الضاغطة عندما يدلهم الخطر عليها، وخطر إسرائيل اليوم هو الأكبر منذ خلقها من العدم عام 1948، وهذا الخطر لن يستثنيها.
وزير المالية العنصري، بتسلئيل سموتريتش، وجه رسالة ابتزاز واستعلاء صريحة للمملكة العربية السعودية، حين طالبها بـ"دفع الثمن" إذا أرادت السلام مع إسرائيل، في دليل سافر آخر على غطرسة حكومة نتنياهو التي تسعى للتعامل مع دول المنطقة بمنطق الفرض والإملاءات، ومنها دولة محورية كالمملكة العربية السعودية.
إن هذا الخطاب المتغطرس تجاه السعودية، التي أكدت مرارًا أنه لا تطبيع دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، يكشف عقلية الاستعلاء التي تحكم قادة الاحتلال، ممن يظنون واهمين، أن السلام يُشترى ويُباع في سوق المصالح الضيقة، متجاهلين أن السعودية، بثقلها العربي والإقليمي والدولي، تُدرك أن لا سلام حقيقي دون إنهاء الاحتلال وضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
إن تهديدات سموتريتش، وغطرسة قادة الاحتلال، دليل إضافي على أن حكومة نتنياهو لا تسعى للسلام، بل تكرس سياسة فرض الوقائع بالقوة والابتزاز، متجاهلة إرادة الشعوب العربية، التي تضع القضية الفلسطينية في صدارة أولوياتها، وترفض أي حلول لا تقوم على العدل والكرامة والاستقلال.
وفي ظل هذا المشهد المظلم، تابعنا مؤخرًا تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، الذي وصف ما يحدث في غزة بأنه "وصمة عار في جبين الإنسانية"، مشيرًا إلى أن القوات المسؤولة عن توزيع المساعدات تواصل ارتكاب المجازر بحق المدنيين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
وفي هذا السياق، أعرب الوزير الفرنسي أيضًا عن استعداد بلاده، بالتنسيق مع عدد من الدول الاوروبية، للمساهمة في إيجاد حلول عملية للأزمة، مؤكدًا التزام فرنسا بالمضي نحو الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية كخطوة أساسية لتحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة.
إن هذه المواقف الدولية، رغم أهميتها، لا تكفي وحدها، فوقف العدوان على غزة ووقف مخططات الضم والتوسع الإسرائيلي له الأولوية، ولكنه يتطلب أولًا واخيرًا تحركًا عربيًا موحدًا وحاسمًا، يعيد للقضية الفلسطينية مكانتها المركزية، ويذكّر العالم أنه لا استقرار في الشرق الأوسط إلا باستقلال فلسطين وقيام الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس.
*الرئيس اليمني الأسبق