صنعاء 19C امطار خفيفة

سقوط اللغة أم سقوط الأيديولوجيا؟

إهداء إلى العلامة زيد بن علي الوزير

 
إلى المفكر السياسي المجدِّد، العلامة زيد بن علي الوزير، مد الله بعمره، الذي أضاء بعمق رؤيته دروبَ الفكر الديمقراطي في اليمن، وصاغ نظريةً رائدةً في "الفردية" كأساس للتحرر من هيمنة الخطابات الشمولية، وكرس حياته لبناء تصورٍ لدولةٍ تقوم على "العقد الاجتماعي"، حيث الحقوق المتساوية والعدالةُ التوزيعيةُ حجر الزاوية.
زيد بن علي الوزير( منصات التواصل)
إلى من نظر باكرًا إلى الفيدرالية -الدولة الاتحادية- كحل جذري لمنع الاستبداد الجهوي وقطع الطريق على الطغاة، مؤمنًا بأن اليمن لن ينهض إلا بانتقاله من "الدولة البسيطة" إلى "الدولة المركبة" التي تحفظ التنوع وتضمن المشاركة.

 

إلى المؤرخ المحقِّق الذي لم يفصل بين الفكر والممارسة، فكان مجاهدًا بقلمه ومواقفه، داعيًا إلى "دولة الحقوق" التي تختزل فيها السلطة بموجب دستورٍ يضمن الحريات ويخضع الحاكم للمحاسبة. ففي كتاباته الأخيرة، بخاصة سلسلة "دولة الحقوق المتساوية -نحو دولة العقد الاجتماعي"، قدّم وصفةً للخلاص من دوامة الصراع الأيديولوجي والديني، مؤكدًا أن الشرعية لا تُستمد إلا من إرادة الشعب الحرة.
إلى المجاهد ابن المجاهد الحر، الذي ورث النضال وأغناه بالعلم، فكان صوتًا لعقلانية إسلاميةٍ ترفض الاستبدادَ باسم الدين، وتؤسس لمواطنةٍ تتسع للجميع تحت مظلة القانون.
"فكما أن الأيديولوجيا تسقط حين تتعارض مع حركة الواقع، فإن اللغة تتحرر حين تتخلى عن أدلجة الخطاب وتعود إلى نقائها كأداةٍ للحوار والبناء"، هكذا تعلمنا من رحلة الأستاذ زيد، أن سقوط الأوهام يبدأ بصراحة الفكر، وشجاعة القول.
"لك أستاذنا كل التبجيل، وسيظل إرثك الفكري نبراسًا لكل من يؤمن بأن التغيير يبدأ بالفكرة، وينتهي بالعدل".
اعتاد أصحاب الأيديولوجيا الرسمية على أنماط من الكتابة الرسمية، تدور حول تبرير النظام السياسي، على اعتبار أنه يمثل الشرعية، وأن مصالح النظام السياسي وأهدافه هي مصالح وأهداف شمولية تعبر عن طموحات كل الجماهير -الشعب. وقد ترتب على هذه العملية: أولًا، استخدام المصطلح أو الشعار كهدف بعيد ومقدس، وثانيًا، توظيف وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة والسوشيال ميديا ومنابر الجوامع -وبخاصة لدى الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي- لممارسة الكتابة واللغة وفق خطاب سياسي تبشيري بالمستقبل من أجل الهدف (الشعار). ومن هنا ساد بعض المصطلحات بشكل مبتسر في الأدبيات السياسية، وقد تجلت أكثر في سلطات الواقع اليوم، شرعي، انقلابي، وطني، وخائن، ومرتزق، وعميل، وإيراني... الخ، دون قراءة واقعية وبموضوعية لخصائص الواقع السياسي والمعرفي.
من الأمور المهمة في هذا الإطار أن القوى السياسية السابقة ربت كوادرها وأتباعها على التعبئة الأيديولوجية، فقد قال العلامة يحيى الديلمي لجماعة أنصار الله التي تعبئ أتباعها، ومنهم ولده، بدروس داخل البدرومات: "إن كنتم تدرسونهم علومًا نافعة، فلماذا تلقى دون أن نسمعها، فإن كانت مفيدة فدعوا الآخرين يستفيدون من دروسكم، وإن كانت أمورًا باطلة دعونا نقومها وننتقدها ونصوبها". وهكذا يفعل الإسلام السياسي السني -حزب الإصلاح- وكانت تفعل الأحزاب القومية واليسارية عندما كانت محظورة من مزاولة النشاط السياسي في العلن.
ونجد مضامين هذه اللغة عند جان جاك روسو في نظريته "الإرادة العامة"، وبعض أبعاد النظرية الماركسية -اللينينية (قوى الإنتاج، وعلاقات الإنتاج)، واليوم تجلت بشكل صارخ لدى الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، ولهذا فقد سيطر على النصوص السياسية والثقافية خطاب أيديولوجي يقوم على إقصاء الآخر، وتفجير المكنون (الذات) للأشياء والتحليل وفق النص السياسي، ثم استيعابه عبر قيم شمولية الأهداف، فمن توليتارية الحزب إلى توليتارية الجماعة، وهذا الفكر الذي كان سمي بالأمس بالتقدمي، واليوم بالكهنوتي للشيعي وبالرجعي للسني، حيث وجد من خلال الشعار المبرر والمسوغ اللازم لعمليات الاستيعاب ثم الوحدة، هذا الفكر نفسه هو المسؤول عن غياب الديمقراطية، لأنه يقوم على فكرة تسلطية شمولية، فهو كفكر لا يهتم بالتفاصيل والأجواء، بل بالكل. من هنا بقيت خصوصية الأفراد معطلة، في حين الشمولي يمارس نوعًا من السياسي القطيعي (الجماعي) ضد الفرد، على اعتبار أن حقوق الجماعة هي حقوق الفرد.
هذه الثقافة القطيعية تجعل الأفراد عبيدًا للجماعة، ومن شذ منهم شذ في النار كما يقول حديث موضوع مقدوح في سنده ومتنه، ويتعارض مع حرية الاعتقاد كلية، إذ كل يعمل على شاكلته باعتبار الدنيا دار ابتلاء.
فعلى رغم أن الاتحاد السوفيتي كان دولة عظمى، إلا أنه ربى شعبًا أو شعوبًا من العبيد، يوفر لهم المأكل والمسكن والملبس، ويعيشون كقطيع واحد بقالة الحزب الواحد، كما هو الحال لدى الإسلام الساسي، والخلل بين ما هو سياسي والواقع من جهة، وبين النظرية والتطبيق من جهة أخرى، أدى إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوطه دون حرب، إنما بفعل عوامل البنية الداخلية للحزب نفسها، لأن الصراع والحسم بقيا من حيث المبدأ، ليس بين قوى الأيديولوجيا والتناقض بين الواقع المعرفي فقط، بل داخل الطبقة العاملة نفسها إلى حين تفجر الصراع في لحظة وصول الاشتراكية عبر آلياتها وقوتها الديكتاتورية.
 لقد فصلت الدولة السوفياتية بين الاشتراكية كمنهج تتضمن الديمقراطية، ففي حين أن الأولى نتاج أيديولوجي بحت أساسه تسلم طبقة معينة الحكم، تعني الثانية تجسيد خصائص الواقع المعرفي والاجتماعي للتمايز القومي والطبقة والسوسيولوجي والثقافي والديني سياسيًا عبر التنظيم والممارسة، أي أنه تم إجهاض الديمقراطية على حساب الاشتراكية، لأنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية دون أحزاب متنافسة برامجيًا، وحرية واعتراف بالتنوع الثقافي والسياسي، ودولة مدنية بكل ما تعنيه الكلمة، وهنا يجب أن يغيب الخطاب المذهبي والفرز العرقي، وعدم الإقصاء وعدم استغلال الأيديولوجيا الدينية في الحكم، وحسب تعبير الدكتور أحمد شرف الدولة دولة يغيب عنها الخطاب الديني، بل دولة يسود فيها العدل والمساواة في الحقوق والواجبات -الحقوق المدنية- والتنافس البرامجي والحكم لصناديق الاقترا دع عبر الانتخابات الحرة النزيهة. في المقابل فإننا نجد في الغرب الكثير من المفكرين أمثال روسو وآرون وتوينبي، يصرون على تفسير وصياغة العالم وفق النشاط الصناعي -التقني، وعلى اعتبار نتائجه هي المجتمع الصناعي الموحد.
أخيرًا، فإن الخلل البنيوي لا يمكن تجاوزه عبر النصوص والمفهوم الأيديولوجي، وأن تسعى كل القوى السياسية والوطنية والثقافية أن تعمل على لجم المذهبيات، والسعي لبناء دولة مدنية اتحادية وفقًا لما تغيته مخرجات الحوار الوطني وباكورة إنتاجها المتمثلة في مسودة الدستور.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً