في لحظات الانكسار، يعلو ضجيجُ الدعوات إلى الماضي، وكأنما الهزيمة تدفع بعضهم لا إلى البحث عن مخرج، بل إلى التنقيب في القبور عن سلطات بائدة. لكنّ الشعوب التي ثارت ذات يوم لا تستسلم بسهولة، والتاريخ لا يسمح بإعادة إنتاج أنظمة لفظتها الذاكرة الجماعية وأحرقتها التجارب.
ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 لم تكن انقلابًا عسكريًا كما يروّج خصومها، بل كانت انفجارًا طبيعيًا لحلم طويل في الحرية والكرامة والعدالة. لقد ثار الشعب اليمني على حكم إمامي كهنوتي ظل يحكم شمال اليمن بقبضة من جهل وسلالة، قرونًا متطاولة، يرفع شعار "الحق الإلهي"، ويحكم بجوع الناس وخضوعهم.
لم تكن الثورة فقط ضد الإمام محمد البدر، بل ضد نظامٍ كاملٍ احتكر الدين والنسب، وأغلق أبواب العلم، وعزل اليمن عن محيطه وعصره. ولذلك، فإن كل محاولات إعادة الإمامة، بأسمائها القديمة أو أشكالها الجديدة، مصيرها الفشل، لأن الوعي الجمهوري، مهما أُضعف، مازال حيًّا في ضمير اليمنيين.
وفي الجنوب، كانت ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني تتجه مباشرة نحو بنية الحكم المحلي المتواطئ مع المحتل: 21 سلطنة ومشيخة كانت بمثابة مكاتب محلية للإدارة البريطانية. سلاطين وقّعوا معاهدات "حماية" جعلت من عدن والمهرة وحضرموت وغيرها جزرًا مفرّقة في أرخبيل التبعية.
لم يكن هدف الثورة طرد الإنجليز فقط، بل أيضًا إسقاط هذه البنى الطفيلية التي ورثت سطوة الأرض والعُرف والختم، دون شرعية وطنية. وقد تحقق هذا الهدف بوضوح حين قامت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وأُعلن عن ميلاد دولة جنوبية حديثة بمؤسسات وطنية، رغم كل ما شاب التجربة لاحقًا من إخفاقات.
التاريخ يعلمنا شيئًا مهمًّا: الأنظمة التي تسقطها الشعوب لا تعود. لم تعد الملكية إلى فرنسا بعد الثورة، ولم يعد الشاه إلى إيران، ولا الهاشميون إلى العراق، ولا الاستعمار القديم إلى الجزائر أو تونس أو ليبيا إلا عبر حلفاء محليين.
في اليمن، كل من يظن أن الإمامة ستعود، أو أن سلطنة القعيطي أو العوذلي أو الكثيري ستُبعث، إنما يعيش في وهم كبير. نعم، قد يعود الاحتلال الأجنبي، لكن ليس بصورته الصريحة القديمة، بل عبر وكلاء محليين، جرى إعدادهم وتسمينهم سياسيًا ليكونوا الأداة الجديدة للهيمنة.
الاحتلال حين يُهزم لا يختفي، بل يعيد إنتاج نفسه من الداخل:
- عبر قوة محلية تقاتل بالوكالة،
- أو نخبٍ تدير له المصالح وتقدّم خطابًا تبريريًا ناعمًا،
- أو مشاريع تقسيم مذهبية وقبلية وجهوية تضعف الدولة وتُعيد المجتمع إلى مربعات ما قبل الثورة.
وفي اليمن اليوم، نرى هذه المحاولات بأمّ أعيننا. من يعيد تسويق الإمامة بلغة "الهوية"، أو السلطنة بلغة "الخصوصية"، أو الاحتلال بلغة "الشراكة"، إنما يعمل ضد التاريخ، وضد الثورة، وضد الشعب.
الثورات قد تُخذل، وقد تُحاصر، لكنها لا تموت. الشعب الذي خرج في سبتمبر وأكتوبر، لا يمكن أن يرتدّ إلى خنادق الجهل والسلالة والاستعمار. وكما قال الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا: "الثورة كالدراجة، إذا توقفت سقطت". فالحل ليس في استدعاء الماضي، بل في تحرير الحاضر، واستعادة القرار الوطني من كل يد تحاول العبث بمصيره.
إن من لا يدافع عن ثورته اليوم، سيكون عبدًا لمن ثار عليه بالأمس.
وذاكرة الشعوب لا تخون.