في المشهد البصري الذي تشكّله أعمال الفنانة التشكيلية روناك عزيز، لا نقف أمام لوحات تُراهن على الغموض والتشفير، بل، على العكس، نقف أمام تعبيرات بصرية تنبني على شفافية رمزية عناوينها: المرأة، الحرية، القضية الكردية. هذه اللوحات لا تستدعي التأويل المغلق، بل تطرح رؤية مباشرة لعناصر مثل: الجسد، القيود، الخوف، والمرأة المتوجسة الخائفة، وهي رموز تتجلى بوضوح حسيّ يُخفي وراءه شبكة كثيفة من التعبيرات الثقافية.

هذا الحضور المباشر للرموز -الذكر، الأنثى، الطائر الغريب، الهَوْري، اللون الأزرق والأصفر، الغابة- لا يُقصد به البساطة، بل يُقترَح كنوع من الصدق الرمزي الذي يتجاوز التلاعب الفني واللوني الخادع. فاللوحة، في هذا السياق، ليست قناعًا، بل مرآة مشروخة، تعكس الذات الثقافية في علاقتها بالأصل، بالشوق، وبالانقسام بين ثقافتين: الكردية والعربية.

لوحات عزيز تُعيد إنتاج العلاقة مع اللون كعلامة على الهوية. فالألوان واضحة، صريحة، لكنها تنتمي إلى طيف وجداني عميق. الأزرق والأصفر -وهما اللونان الأكثر حضورًا في هذه التجربة- يتحرران من كونهما استعارة غامضة ليصبحا موضوعًا جماليًا بحد ذاته. في ثقافات متعددة، يشير اللون الأزرق إلى المساحات الانتقالية، إلى الغموض القابل للظهور، إلى الحزن النبيل، إلى ما قبل/ ما بعد الوجود. وضمن هذا التصوّر، لا يعود الغموض مرادفًا للضبابية، بل نتيجةً لفرط الوضوح، كما في الصوفية: الشفافية هي أقصى درجات الغموض.

ثنائية المرأة/ المرأة أو المرأة/ الرجل في عوالم عزيز تتجاوز الأنوثة والذكورة البيولوجيتين. نحن أمام رمز كوني لانقسام الإنسان منذ ولادته الأولى. فالأسطورة، التي تحضر بصيغة شعرية، تتحدّث عن "ظلّ الرب" الذي انشطر بسيف، فانقسم الكائن إلى اثنين. في هذا السياق، لا يُفهم الجندر كهويّة فقط، بل كتصدّع وجودي، كهشاشة ميتافيزيقية.

حضور الجسد هنا ليس مجرّد دعوة للرغبة، بل طريقة في مساءلة حدود الجسد، وحدود ما يمكن أن يُقال أو يُلمس أو يُرسم. الجسد في هذه الأعمال لا يعبّر عن وفرة الشهوة، بل عن هشاشتها. إنه لوحات شوق لا يكتمل، شوق ينعكس في مرآة الغربة. فالرغبة لا تتجه نحو الامتلاء، بل نحو الحنين إلى الأصل، إلى الوحدة الأولى، إلى اللازمن.

السؤال الذي تطرحه هذه اللوحات -وربما يطرحه كل فنّ- ليس "من نكون؟"، بل "ماذا كنّا قبل أن نكون؟". متى انقسمنا؟ متى انفصلت الرسمة والصورة عن الجسد، والصوت عن الصرخة، والإنسان عن الحيوان، والرغبة عن القداسة؟ في نهاية المطاف، يُقرأ الرسم عند روناك عزيز بوصفه طقس عبور أنثروبولوجي، حيث تُستدعى الرموز القديمة لتعيدنا إلى أسئلتنا الكبرى: عن الحب، والفراق، والهوية، والمعنى. الفنّ هنا ليس مجرّد مهارة أو خيال، بل حفر أركيولوجي في الذاكرة البشرية. إنه المكان الذي تتشابك فيه يد الله بيد الإنسان، في محاولة يائسة لإعادة صياغة الخلق.
* روناك عزيز فنانة تشكيلية من كردستان العراق، تقيم في السويد، وتعمل أستاذة لمادة الرسم في المدرسة الثقافية السويدية.