صنعاء 19C امطار خفيفة

طوفان الأقصى وارتداداته

أمامي الآن قراءة للدكتور عبدالعزيز المقالح في قصيدة "حوار مع عز الدين قلق، في ليلة اغتيال زهير محسن"، للشاعر الفلسطيني محمود درويش، نُشرت في كتاب "أصوات من الزمن الجديد، دراسات في الأدب العربي المعاصر" (الطبعة الأولى، دار العودة، بيروت 1980م). وعز الدين قلق، هو مناضل فلسطيني، كان ممثلًا لمنظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا، واغتيل في باريس بتاريخ 3 أغسطس 1978م. أما زهير محسن، فهو مناضل فلسطيني أيضًا، كان عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيسًا للدائرة العسكرية بالمنظمة، وقائدًا بعثيًا، كان على رأس المنظمة الفلسطينية المسلحة (طلائع حرب التحرير الشعبية -قوات الصاعقة)، التابعة لحزب البعث العربي الاشتراكي. اغتيل في مدينة "كان" بتاريخ 25 يوليو 1979م.

 
وكلا الشهيدين اغتيلا على أيدي عملاء الموساد الإسرائيلي. ونقتبس في ما يلي فقرات من قراءة الدكتور عبدالعزيز في تلك القصيدة (انظر صفحتي 161 و162 من الكتاب المذكور):
"... وليست المساحة المخصصة تسمح لي بالوقوف طويلًا عند هذين التساؤلين الكبيرين، عن الموت الذي هو في نظر المناضل الفلسطيني أبسط مما يظن الشاعر، وأبسط مما نظن جميعًا، السؤالان أو التساؤلان، هما: أيوجع؟ والحديث بالطبع عن الموت، وهل هو مؤلم؟ المناضل يقول إن الموت يوجع حقًا، ولكن في حالة واحدة، حالة أن يكون المناضل خائفًا، أما حين يكون شجاعًا وثابتًا فإنه لا يحس بالوجع، ذلك هو السؤال الأول، أما السؤال الآخر وهو مرتبط بسابقه فهو:
هل تخاف؟ ويجيب المناضل بنعم، إنه يخاف، وذلك في حالة واحدة أيضًا، وهو إذا جاءه الموت بطيئًا، وعرف وجه القاتل، في هذه الحالة يخاف، لأن القاتل معروف له، قد يكون -للأسف- رفيقًا أو صديقًا، أو واحدًا من الذين يدَّعون الرفاقة والصداقة.
في هذين التساؤلين، وفي سؤال سابق تقدم ذكره، وهو: لماذا نكون كما لا نكون؟
أقول إن في هذه التساؤلات الثلاثة يكمن جوهر قصيدة محمود درويش، هنا محصلة الجهد الفني والشعري، لماذا يكون الفلسطينيون كأنهم لا يكونون؟ هم يعيشون ولكن لا بلاد لهم كسائر مخلوقات الله، وهم يحيون ولكن في رعب وخوف دائمين، فمتى يعرفون الأمان كبقية مخلوقات الله؟ إنه لأمر يثير الشجن، ويفتت القلوب... ثم إن الإنسان الفلسطيني الضائع المشرد يراد له... نريد جميعًا أن يموت دون أن يدرك وجعًا، إنه إنسان كسائر الناس، يحب، ويتألم، ويتعذب، ويتوجع. ثم لأنه قد أدهشنا ببطولاته الرائعة يجعلنا كذلك نتساءل هل هو خائف؟ وهو بكل تأكيد يخاف، لأنه إنسان مثلنا، وقد يخاف أكثر منا عندما يكتشف أن الذي يصوب إلى جبينه أو إلى صدره البندقية ما هو إلا رفيق قديم، أو صديق جديد..
يا لمأساة هذا الإنسان. كيف يستطيع أن يواصل الحياة في مثل هذا الجو المليء بالدم والقتل، يذهب إلى زوجته في "كان"، وحين لا يبقى بينه وبينها سوى خطوات تفصل بين المصعد وباب الشقة، ينقض عليه الموت...". انتهى الاقتباس.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن التساؤلات الثلاثة، التي وردت في سياق قراءة الدكتور عبدالعزيز، في إحدى قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش، تطرح نفسها علينا اليوم بصورة أكثر إلحاحًا، ونحن نشاهد ملايين الفلسطينيين وهم يُغتالون بصواريخ الطائرات وقذائف المدفعية ورصاص القناصة، وبالحصار المطبق والتجويع المتعمد وهدم المساكن على رؤوس ساكنيها وتدمير المستشفيات والمدارس ومؤسسات الرعاية الاجتماعية وقتل الأطباء والمسعفين والإعلاميين وموظفي الإغاثة، ومنع أرتال شاحنات المواد الإغاثية الواقفة أمام المعابر منذ أشهر، ومنع الزوارق التي ترسلها منظمات شعبية أوروبية، منعها جميعها من الوصول إلى غزة، لإنقاذ الأطفال والنساء والمرضى والمعاقين والعجزة، في جريمة إبادة جماعية لا مثيل لها في التاريخ البشري، على مرأى ومسمع من الحكومات العربية والحكومات الإسلامية وحكومات ما يسمى "المجتمع الدولي" و"العالم الحر"، وغير ذلك من المسميات التي في ظاهرها الرحمة وفي باطنها الخواء، أو السم الزعاف. هكذا تفتك عصابات الإجرام الصهيونية بشعب ليس له من مطلب إلا أن يعيش في وطنه، كغيره من بني البشر.
هذا الواقع المؤلم، الماثل أمامنا، يضيف إلى التساؤلات الثلاثة الآنفة الذكر، تساؤلًا أكثر إثارة للمشاعر وتأثيرًا في النفس وفي العقل: من أين يستمد أطفال الشعب الفلسطيني، قبل كباره، هذا العنفوان الذي أدهش العالم، وهذه القدرة على الصمود والمطاولة والتشبث بالأرض ورفض التهجير والالتفاف، الذي يتجاوز قدرة العقل العادي على الفهم، حول شباب المقاومة المسلحة وقياداتها؟ لقد أبيدت أسر بكاملها وتجاوز عدد الشهداء الخمسين ألفًا، معظمهم من الأطفال والنساء، ومحيت أحياء غزة وشوارعها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها ومطاعمها ومخابزها وأسواقها ومنتزهاتها، على مدى يقارب العامين من القصف والإجرام المتواصل. ومع ذلك لم يستسلم مقاوم ولا طفل ولا امرأة ولا شيخ... حقائق نشاهدها في الواقع، تتجاوز حدود الخيال.
لقد تولت قيادة عصابات الإرهاب الصهيونية، وعلى رأسها الهاجاناه وإرجون وإشتيرن، تولت قيادتها منذ عشرينيات القرن الماضي، شخصيات دموية متطرفة، مارست الإبادة الجماعية المتواصلة، في مدن فلسطين وقراها، من أمثال ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء في الكيان الصهيوني المحتل، وإيجال آلون وشمعون بيريز وإسحاق رابين، الذي تقاسم مع أنور السادات جائزة نوبل للسلام (!!)، وأرئيل شارون، ومناحم بيجن وإسحاق شامير وغيرهم من قادة العصابات الصهيونية، الذين أوصلتهم مؤهلاتهم الإرهابية إلى رئاسة حكومات الاحتلال المتعاقبة. ومثلما تولت تلك الشخصيات غير السوية قيادة عصابات الإجرام الصهيونية، ومارست عمليات الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، تتولى قيادتها اليوم شخصيات لا تقل إجرامًا ودموية وسقوطًا أخلاقيًا عن أسلافها، وعلى رأسها بنيامين نتن ياهو وإيتمار بن غفير وبتسئيل سموترش، وعشرات، بل مئات القادة الإرهابيين، الذين يواصلون نهج أسلافهم، ويتفوقون عليهم، في ابتداع أساليب جديدة وطرائق فريدة للإبادة الجماعية، ولا يرون في الفلسطينيين، بل في العرب جميعهم، إلا مجرد "حيوانات"، كما سماهم وزير الحرب الصهيوني السابق، يمكن محاصرتهم وتجويعهم وإبادتهم، دون خوف من حساب أو مساءلة أو عقاب.
وها هي العصابات الصهيونية هذه قد أضحت، في نظر القوى الاستعمارية، تمثل دولة، من حقها أن تدافع عن الأرض التي اغتصبتها وشردت شعبها وتواصل الآن إبادته. بل ومن حقها الطبيعي أن تحتفل بما تسميه "عيد الاستقلال"، أي عيد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين العربية، في 14 مايو 1948م، وتسليمها للعصابات الصهيونية الوافدة من شتى بقاع الأرض. إنه احتفال غريب، بعيد استقلال أكثر غرابة، فيه ما فيه من استخفاف بعقول العقلاء، ومن استفزاز لإنسانية الأسوياء من البشر.
وفي سياق هذا التاريخ الآثم، الموغل في الإرهاب والتضليل وعمليات الإبادة الجماعية المتلاحقة والاغتيالات الغادرة، واغتصاب الأرض وتشريد سكانها، جاء الحدث الأبرز في مسيرة النضال الفلسطيني الطويل (طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م) وارتداداته التي نشهدها في المنطقة وفي العالم، وأبرزها في هذه اللحظة الاشتباكات المسلحة الإيرانية -الإسرائيلية المباشرة، جاء هذا الحدث الكبير غير منعزل عن مسار النضال العادل للشعب الفلسطيني، بل حلقة من حلقاته المتصلة، منذ ما يزيد على قرن من الزمن. فهو لا يمثل بداية للصراع مع الكيان الصهيوني الغاصب، كما تصوره الدعاية الصهيونية، وينساق معها بعضٌ من أبناء جلدتنا، بل يمثل تجليًا من تجليات إرادة الشعب الفلسطيني في الحياة وتشبثه بأرضه وإصراره على تحرير وطنه المغتصب.
وفي هذا السياق أيضًا، لا يمكننا إلا أن نستهجن الموقف الرسمي العربي من النضال العادل للشعب العربي الفلسطيني ومن مقاومته الباسلة، ولا يمكننا إلا أن نعبر عن تقديرنا لكل من يمد يده لإسناد هذا الشعب الذي يُذبح أمام أعيننا، وهو يدافع عن وجوده. حتى وإن اختلفنا مع بعض جهات الإسناد هذه، فخلافاتنا نعالجها في سياقات أخرى، وليس في سياق إسناد الشعب العربي الفلسطيني. فكل إسناد في هذه اللحظة التاريخية مطلوب، ويجب أن نقدره ونرحب به ونشجعه، من أي جهة جاء، ومهما كان حجمه، ومهما كان نوعه، سواءً كان إسنادًا بالفعل العسكري الممكن، كما هو حال الجبهة اليمنية، أو بالكلمة الصادقة التي تنطقها أو تكتبها ألسنة وأقلام خيِّرة، ملتزمة بالقضايا الإنسانية والقيم السوية، أو بالمواقف العملية لبعض الحكومات في العالم، أو بالحراك الشعبي، الذي عبر عن نفسه في مختلف البلدان والقارات، وكان عنوانه الأبرز في الأسابيع الأخيرة سفينة "مدلين"، التي انطلقت من إيطاليا بحرًا نحو غزة، لفك الحصار المطبق على سكانها، و"قافلة الصمود" التي انطلقت من تونس برًا، وهي في طريقها الآن إلى غزة، إذا لم تمنعها بعض الأنظمة العربية الحاكمة، أو غيرها من الفعاليات العسكرية والشعبية، التي تمثل بمجموعها ارتدادات لطوفان الأقصى، لا يجوز استهجان أي منها، أو التقليل من أهميته أو التشكيك في جدواه. إذ إن من يستحق أن يُستهجن موقفه ويُدان، هو الحكومات العربية القادرة على الإسناد المؤثر، الممتنعة عن الإقدام عليه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً