صنعاء 19C امطار خفيفة

فذلكة لغوية

 للدكتور العراقي هاشم الطعان كتاب بعنوان «تأثر العربية باللغات اليمنية القديمة»، يتضح من عنوانه أثر اللغات اليمنية القديمة على الفصحى.

 
لكن كيف لو أنَ البحثَ أخذَ مدىً أبعد مِمَّا ذكره الطعان؛ لنصل إلى النتيجة التي تؤكد أنَّ اليمنية القديمة هي الأصل الذي جاءت وتولدت منه العربية الفصحى.
 
إنَّ كلام المفسرين والإخباريين والتاريخ اليمني القديم يؤكد مِثلِ هذا الرأي. فاليمنيون القدماء كان نفوذهم يمتد إلى الحجاز ونجد والبحرين والمُشَقَّر، بل أبعد من ذلك: الحبشة، والشام، والعراق، وهم أهل حضارة فلا شكَّ أنَّ لغتهم كانت هي السائدة في ذلك الوقت.
 
وبمزيد من البحث والتنقيب في الآثار واستنطاق الشواهد قد يفضي بنا إلى تأكيد هذه النتيجة.
 
ثُمَّ إنَّ العربية الفصحى في شمال الجزيرة تطورت وقطعت شوطًا ومدىً أوسع بفعل أسباب موضوعية على الباحثين والمختصين القيام بتجليتها وتبيينها.
 
هذا يعني هذا أنَّ العربية الفصيحة هي لغة يمنية قديمة تطورت حتى بلغت قمة بيانها الإنساني في الحجاز بمكة في لغة قريش.
 
إنَّ ما يشوش مثل هذه الرؤية هي الواقع الذي نعيشه الآن في ظل التقسيم الذي خَلَّفَه الاستعمار؛ حيث لا نرى إلا كياناتٍ متفرقة مختلفة ومسميات متعددة، فنسقط الحاضر على الماضي الذي لا شك أنَّ له سرديةً غير السردية التي صنعها الأحْبَار والاستعمار والأنظمة القطرية التي جاءت بعده.
 
لِنُلقِ نظرةً على بعض الحروف المتشابهة في الأبجدية العربية التي قد تتناوب وتتبادل مواقعها، إمَّا في المحكيات اليمنية أو الفصحى كـ: (ت، ث): توب، ثوب.
 
(ل، م): البِّر، امبِّر.
 
 (ح، هـ)؛ (ر، ز): (هرم) في النقوش القديمة، هي (حزم) الجوف.
 
وإذا ما تأملنا حرف الحاء في الفصحى، لرأيناه من الحروف التي يصعب نطقه عند كثير من الشعوب. فلفظة حمار مثلاً ينطقه الفارسي أو الأوروبي همار.
 
لست أدري إن كان لحرف (الحاء) وجودٌ في اليمنية القديمة أو أنَّ حرف الهاء كان يقوم مقامه، كما مر علينا في (هرم) التي سبق القول بأنها حزم الجوف، ويلاحظ أيضًا أنَّ الراء في النقوش صارت زاي في الفصحى.
 
لنأخذ تناوب القاف والكاف بين الفصحى والمحكية. وبرأيي أنَّ كثيرًا- إن لم نقل معظم المحكية اليمنية له جُذورهُ العميقة في اليمنية القديمة.
 
لنأخذ مثلاً «مكرب سبأ»: والمكرب له تفسيران: الأول هو المُقَرِّب. فمكرب سبأ، كما يقول دارسو تاريخ اليمن القديم، كان حائزًا على السلطتين: الزمنية، والدينية؛ بمعنى أنه كان ملكًا وكاهنًا في نفس الوقت.
 
وذكر بعض الباحثين أنَّ المكرب بمعنى موحد الشعوب. والشعب غير القبيلة. فالقبيلة مرجعها الدم أو النسب الواحد، فيما الشعب هي مجموعة من القبائل تختلف في أنسابها.
 
لكن هذا التعريف لا يخرج في معناه عن المعنى الأول. فالذي يوحد بين الشعوب يقوم بالتقريب بينها تحت حكمه.
 
ويرد عند المفسرين، والمتصوفة ما يسمونه بـ «الملائكة الكروبيون»؛ وهم الملائكة المقربون.
 
ولطالما أشكل علي هذا الشاهد النحوي؛ حيث يقول الشراح أنَّ الفعل «كَرَبَ»، يأتي بمعنى كَادَ، ويذكرون له هذا الشاهد:
 
كَرَبَ الفُؤَادُ مِنْ جَواهُ يذوبُ 
 
 
 
 
حِيْنِ قَالَ الوشاةُ: هِندٌ غَضوبُ
 
 
 
كان الإشكال بالنسبة لي كيف أنَّ اللفظ «كَرَبَ»، الذي هو أقرب في اشتقاقه من الكرب؛ وهي الحالة التي تعتري الإنسان من الضيق؛ كيف يكون بمعنى كَادَ؟!
 
ولمَّا لفت نظري الأخ العزيز المهندس محمد الصغيري أنَّ أهل الشام ينطقون القاف كافًا، عاد بي هذا إلى «الملائكة الكروبيون»، وإلى الشاهد النحوي المذكور؛ إذ ليس «كَرَبَ»، في معناه إلا «قَرُبَ». ومعنى البيت أنَّ القلب قَرُبَ من أن يذوب من شدة الإشفاق من غضب محبوبته.
 
وأشار إلي الأستاذ الوالد إلى«المقه»، و«مكه». فالمقه، كما يقول الآثاريون: «إله القمر»، لكني رأيت بعض الباحثين المصريين يذهب إلى تخطئهم في ذلك؛ فليسَ المقه إلا بيتَ الله، أو حرم الله. فالألف واللام هي المشيرة لله. ومقه بمعنى بيت أو حَرَم.
 
وهذا قد يعيدنا إلى «كرب» (إيل)، وإلى إسما (عيل).
 
هل تلاحظون كيف تبادلت الأدوار بين الألف والعين، في كل من إيل وعِيل؛ حيث بقيت في اليمنية القديمة آثار لها في محكية تهامة، وفي بعض اللغات الفصيحة أيضًا.
قال الفراء: سمعت بعض بنى نبهان من طيء يقول: دأني؛ يريد دعني.
و«موزع» بتهامة اليمن اسمها في النقوش «مُوْزَا»؛ وهذا يذكرنا باسم النبي «موسى» -عليه السلام-، وبتهامة أيضًا «موشج»، لا تبعد عن لفظة موسى.
 
وفي الختام هل لنا أنْ نَصيرَ إلى الآتي:
 
يطلق على الشمس في العربية: «يُوْح». وفي محكية صنعاء تقول المرأة في حال تعجبها أو استنكارها: «يُوهْ!».
 
وَلمَّا كانت الشمس معبودًا لليمنيين القدماء، وعلى رأسهم سبأ. فهل يُسَوِّغ لنا هذا إلى الذهاب أنَّ كلمة «يُوهْ»؛ وهي لفظة لا شَكَّ أنَّ لها جذرًا في لغة اليمنيين القدماء، وقد يؤدي معناها تلك الكلمة التي يقولها الشخص في أيامنا حين يستغرب أو يتعجب من شيءٍ مَا فيقول: «يا الله!».
 
فكأنَّ المرأة في عصرنا، وفي العصور اليمنية القديمة حين كانت تقول: «يُوهْ!»، تعني بقولها: يا الله أو يا إلهي!
 
وقد مر بنا تناوب «الهاء» والحاء في: «هرم»، و«حزم».
 
إلا أنَّ الإشكال يظل قائمًا، وهو أنَّ الآثاريين لم يذكروا أنَّ «يُوْهْ»، هو اسم المعبود الشمس عند اليمنيين القدماء.
 
لكن عند العبرانيين لفظة «ياهُوْ»؛ وهي قريبة من «يُوهْ»، أو تكاد تكون نفسها، فابتذلها الاستخدام المتكرر حتى صارت إلى ما صارت إليه.
 
وهي لفظة يستخدمها المتصوفة في مناجاتهم ويقولون: إنَّه الاسم الأعظم، وجاءت هذا اللفظة في قصيدة للبرعي شهيرة يؤديها النَّشَادون في تهامة ومصر:
 
قِفْ بالخُضُوعِ وناجِ ربَّكَ «يَاهُوْ»
إنَّ الكريمّ يُجيبُ مَنْ نَاداهُ

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً