صنعاء 19C امطار خفيفة

في ذكرى رحيل نبيل السروري

الشاعر الذي كتب عن الحب الأخضر لا عن الموت الأبيض!

الشاعر الذي كتب عن الحب الأخضر لا عن الموت الأبيض!
نبيل السروري بعدسة المصور عبدالرحمن الغابري

لم أزل أتذكر بوضوح صورة الفقيد الشاعر محمد حسين هيثم حين جاء إلى مسكني مساء 28 مايو 1997، ليبلغني بوفاة صديقنا الشاعر نبيل السروري... حشرجة صوته الحزين امتزجت بلهاثه، جراء صعوده درج العمارة. فارتسمت بذهني صور مجسّمة للفاجعة، التي تقفز إلى البال كلما تذكرت أبا "زرياب".

 
قبلها بيوم واحد، محمد هيثم وعبدالكافي الرحبي وأنا، كنا في زيارته للمستشفى، وكانت معنوياته مرتفعة جدًا، وبعد ممازحته قال إنه قد يكرر تجربة أمل دنقل، ويكتب عن غرفة المشفى، وسيكتب ليس عن الموت الأبيض، وإنما عن الحب الأخضر.
 
سبعة وثلاثون عامًا هي كل السنوات التي عاشها نبيل السروري، وأراد لعشرين منها أن تكون خاصته هو، يبددها بالتمرد وكتابة الشعر، فمدرس مادة الرياضيات النابه كان سياسيًا مختلفًا، انقاد للحلم الكبير بواسطة الشعر. ومع ذلك لم تكن ممارسة السياسة عنده ترفًا، واستعراضًا وإشباع رغبة في شرخ الشباب، بل كانت فعلًا للمغامرة التي يريد بواسطتها ارتقاء الحلم، وصولًا إلى مجتمع العدالة والرفاهية، وكان مؤمنًا بأن تيار "اليسار" وحده من يستطيع قطر هذا الحلم، والعبور بهذا المشتهى الجميل إلى ضفة التحقق. في وقت كانت لم تزل سوق الشعارات الكبرى مزدحمة بعارضي بضائع الأيديولوجيات في استقطابات الحرب الباردة.
 
كارثة يناير 1986 كانت اللحظة الأصعب عند نبيل، إذ قادته إلى المراجعة العميقة، التي هدمت في ذهنه لاحقًا اليقينيات الكبرى، خصوصًا ما يتعلق بخيار انتمائه الحزبي، الذي بدأه في "الحزب الديمقراطي الثوري اليمني"، غير أنه مع تباشير الوحدة 1990 صار من مؤسسي "حزب التجمع الوحدوي اليمني"، ضمن ثلة من المثقفين والكتاب والأدباء، الذين رفعوا شعار "الديمقراطية... المساوة... حقوق الإنسان"، إذ قدم الحزب بوثائقه التأسيسية ورموزه القيادية "الجاوي ونعمان وخالد فضل والحريبي وكلز..."، صورة مغايرة للخطاب السياسي في بلد انتقلت فيه الأحزاب (غير الحاكمة) من السرية إلى العلنية السياسية، وما صاحب العملية من سيولة وضجيج، كان التجمع فيها أكثر ترشيدًا ونضجًا في خطابه، خصوصًا في مواقفه من القضايا المحلية والإقليمية، وعلى رأسها موقفه من دستور دولة الوحدة وتوحيد التعليم، وإقليميًا موقفه الرافض وإدانته لغزو الكويت من قبل نظام "صدام حسين" في مطلع أغسطس 1990، فتحمل جراء ذلك حملات التشكيك والتخوين، من عصبويي السلطة وحلفائهم.
 
وحين جرت الأمور بعكس ما اشتهى الحالمون، ومنهم نبيل، بدخول البلاد في أزمات سياسية وأمنية أفضت إلى حرب صيف 1994، واجتياح الجنوب، بدأت صورة القبح السياسي تلقي بظلالها الثقيلة على الجميع، فشاعت أخطر لحظات النكوص في حياة الناس، الذين دفعوا ثمنها صمتًا أو مداهنة أو بيعًا للمواقف، لهذا لم يكن أمام نبيل الشاعر الرافض لهذه الخيارات القاتلة سوى العودة إلى مرابعه الجمالية، التي صارت الملاذ الآمن والحضن الدافئ، فعادت لتزهر في داخله حدائق التمرد الخلاق من جديد، ومنها الانغماس بموضوع الطفولة.
 
خلال أعوام ثلاثة تفجر نبيل الشاعر والعاشق، الذي أعطي الكلمات روحها وخصبها المختلف، وما كتبه خلال الأعوام الثلاثة، منذ وضعت الحرب بارودها حتى وفاته، من نصوص ذات قيمة جمالية وأسلوبية، تتفوق على ما كتب من الكثير من النصوص خلال سنوات التكوين الأولى ومتبوعاتها من سنوات النضج الثقافي.
 
بعض هذا النتاج صدر بعد رحيله، بواسطة وزارة الثقافة عام 1998، في ديوان صغير حمل عنوان "زرياب"، لكن ما يؤخذ عليه أنه جُمع على عجل، وبدون مراجعة. غير أن المحمود فيه، أنه صار الحبل السري الذي يربط القراء بجزء من صورة نبيل السروري الشاعر، الذي كان في الغالب سيهمل كل حضوره الشعري في ظل لوثة النكران والجحود، فلا يتبقى منه غير صورة محفورة في أذهان أصدقائه ومحبيه القريبين.
 

(2)

 
حُسِب نبيل كشاعر على جيل الثمانينيات، التي تشكلت أصواته تحت ضغوط الشعارات الكبرى، فجاءت تجارب معظم منتسبيه أشبه بلازمة غنائية فارطة، حاذرت طويلًا الاقتراب من مناطق التجريب خارج الوزن وموضوعات الالتزام، التي تباعد بين يقين السياسي وتمرد الشاعر. وحدها تجربة نبيل، مع قليل من التجارب، تمردت على القولبة، فبدأت تتلمس حضورها كموضوعات في المهمل والمغيَّب، وتتعزز كأسلوبيات بواسطة التجريب الكتابي، الذي اكتمل نضجه مع بزوغ عقد التسعينيات، الذي ذاب داخله نبيل، ومثل صوت التمرد فيه، مؤثرًا في عدد غير قليل من الأصوات الشابة، التي تماهت بعضها مع تجربته إلى حد الالتصاق.
 
القصيدة الومضة... البياض المتغلغل في أبنية الجملة الشعرية... الصورة البسيطة المتماسكة غير المكترثة بالمفارقات ومحسنات الصنيع، مثلت كلها المتاحات المغايرة التي عمِل عليها الشاعر بأسلوبه الخاص.
مثل طفل
أجيء
قلبًا تعلم منك
حتى خيانة نبضه.
وما كان متعاليًا عليها من أغراض الكتابة عند الشعراء الأيديولوجيين، من أبناء جيله، صار مشغلًا حيويًا في شعره، فالحب والمعاش اليومي كان ملح الكتابة في نصوصه المعتمدة المخلصة لاقتصاد اللغة.
الشبابيك، الحواري، وحلُ الأزقة، بعض الأرامل، صوت "المداع"
الرفاق الذين مضوا باكرًا
والدروف العتيقة:
تذكرن حتى الصبايا اللواتي تلصصنه.
مستدركات الطفولة، حين تجسدت في حضور "زرياب" الابن وانشغالاته، إنما كانت تعبِّر عن الحنين الدفين إليها، من أجل الاغتسال من أوهام النضج والكِبَر والحاجة.
"الريالات فراشات جميلة
والشميري -الذي لا أحب-
ضوء حارتنا الوحيد
الريالات التي طيرت حلمي
لم تضع يا أبي
الريالات تخبئ نفسها في الزقاق
القريب من البيت".
الجسد النحيل المثقل بالعشق والتمرد، أسلمه صاحبه للاشىء، فقط حتى تمر المعشوقة عليه مثل التعاويذ القديمة:
"مُرّي...
إنه جسدي:
أسلمته الآن حمى القات و"الفاليوم"
واللاشيء
وهل أبكي؟
مُرّي على فرح
فقدناه وضمني بقايا جنونه
الى سلة في الرصيف".
28 عامًا على رحيل النبيل السروري الشاعر المختلف تمردًا وعشقًا، وليست مجموعة "زرياب" وحدها تكفي للتعريف بتجربته الشعرية الثرية المتنوعة، فأرشيفه الخاص يحوي نصوصًا لم تتضمنها المجموعة، التي صدرت بعد رحيله، تحت تأثير الفاجعة والإرباك، وكان التعويل أن تعقبها مجموعة أخرى، تتضمن النصوص التي لم يُهتد إليها في حينه، لكن ذلك لم يحدث.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً