تحلّ علينا الذكرى الخامسة والثلاثون لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية في ٢٢ مايو ١٩٩٠، في ظروف شديدة الانقسام والتمزق تعيشها اليمن، وأوضاع أكثر تدهورًا يعيشها المواطن، لا تمت لقيم الوحدة ومشروع دولة الوحدة بأي صلة.
ومن المؤسف أن تمر ثلاثة عقود ونيف على دولة الوحدة، ولا نجد من قيمها وأهدافها شيئًا ملموسًا على أرض الواقع، في انتكاسة وطنية كبيرة تكشف فشل من أدار مشروع دولة الوحدة في تحقيق هذا المشروع، الذي كان مطلبًا وطنيًا ملحًا ناضلت من أجله أجيال من اليمنيين في مراحل مختلفة من النضال الوطني.
لقد أدّى التعامل مع مشروع دولة الوحدة في سنواته الأولى، بعيدًا عن قيم المواطنة المتساوية والعدالة في توزيع الثروة والسلطة، إلى كارثة حرب صيف ٩٤، وما تبعها من تعامل بمبدأ الضمّ والإلحاق، والأصل والفرع، وتحويل الوحدة التي تحققت طوعًا إلى وحدة عُمّدت بالدم وفُرضت بالقوة، ما أضرّ بالكثير من أبناء المحافظات الجنوبية، خصوصًا مع سياسة التهميش والإقصاء.
ولعل أشكال المعارضة السياسية التي خاضت صراعات وأعمالًا نضالية لتصحيح المسار خلال السنوات الماضية، كانت تدرك هذه الأزمة، لكنها لم تجد السبل والأشكال المناسبة لتعزيز قيم المواطنة المتساوية. ولعل انتخابات ٢٠٠٦ التنافسية، بعيدًا عن نتيجتها، كانت مظهرًا من مظاهر الخروج الجماهيري الواسع الرافض للوضع، والكاسر لحاجز الخوف، بقيادة شخصية نزيهة وشجاعة كفقيد الوطن المناضل فيصل بن شملان.
وجاءت ثورة الشباب في ٢٠١١ لتعلن جرس إنذار أخير عن انفجار مجتمعي من واقع لا يُعبّر عن دولة الوحدة والمواطنة المتساوية والعيش الكريم. إلا أن هذا الحراك الشعبي غير المنظّم تم احتواؤه من قوى فشلت كثيرًا في البحث عن مخرج وطني، بعيدًا عن أطماع السلطة، وسعت إلى وراثة نظام سقط.
وفي مؤتمر الحوار الوطني، كان إحساس الأغلبية أن شكل دولة الوحدة الاندماجية لم يعد مجديًا، فطُرحت المقترحات والرؤى بدولة اتحادية من أقاليم، وأخرى بدولة بحكم محلي واسع الصلاحيات، لكن كل هذه الرؤى أُسقطت بقذائف الحرب التي أسقطت الدولة وخلقت واقعًا أكثر هشاشة، فُقدت معه السيادة والدولة الواحدة والسلم الاجتماعي.
ولعل التجاذبات الإقليمية والدولية أفقدتنا السيادة والوحدة الوطنية، مستغلّة انشغال من يحكم اليمن بشهوة السلطة على حساب ترسيخ قيم المواطنة والمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحريك قطار التنمية. وهذه التجاذبات، بالطبع، لا تريد يمنًا موحدًا وقويًا، بقدر ما تريد إدارة الفرقة والعداوات البينية وتغذيتها، في ظل عمى وطني لا نظير له.
واقعيًا، فإن دولة الوحدة لم تعد موجودة اليوم، في ظل مشاريع تمزيقية وتقسيمية وجهوية لا تخدم اليمن، ولا حتى أبناء المناطق التي تُرفع باسمها مشاريع الانكماش إلى الذات المناطقية أو الجغرافية، بقدر ما تخدم دولًا خارجية لها اليد الطولى في مناطق سيطرتها.
والمؤكد أن وضع اليمن اليوم، ومؤشرات انزلاقه نحو إقطاعيات ومشايخ جديدة، لن يكون لصالح أبناء المحافظات الشمالية، أو الجنوبية، أو الشرقية، أو الغربية، بقدر ما يخدم أطماع إيران، والسعودية، والإمارات، وقطر، وعُمان، كدول لها مصالح خاصة وتوافقات مع دول إقليمية ودولية تتعامل مع اليمن كموقع استراتيجي فاعل في الصراع العالمي الحديث الذي تتزعمه أمريكا وروسيا والصين وبريطانيا، وغيرها من القوى الفاعلة.
ولذا، فإن اليمنيين، سواء الذين يحتفون بعيد الوحدة اليوم أو من يعادونه، هم في النهاية ضحايا لحلم اليمنيين الكبير بدولة موحدة وقوية تفرض سيادتها على كل التراب اليمني، وتُعلي من قيمة المواطن وحريته وكرامته وأمنه وعيشه الكريم، وتنفتح على العصر بتطوره وتقنياته الحديثة.
ولعل الصورة المبكية أن اليمنيين الذين ذهبوا إلى الوحدة في عام ٩٠ بأحلام لا حدود لها، كانوا ينتمون إلى دولتين فقط في الشمال والجنوب، واليوم لا نستطيع القول إن الواقع انتكس إلى ما قبل الوحدة، لأننا نعيش في واقع تسيطر عليه جماعات متعددة، بولاءات خارجية مختلفة، يجمعها تمزيق اليمن وتحويله إلى ميدان صراع لقوى خارجية، وحقل تجارب لشركات تصنيع الأسلحة.
في عيد الوحدة الـ٣٥، تعيش اليمن واقع الكانتونات الصغيرة التائهة، الهاربة من ماضٍ فشل في إدارة مشروع دولة الوحدة، إلى فوضى المشاريع التمزيقية الصغيرة، التي ستكون بالتأكيد غريبة عن ذات اليمني الحضارية وعراقته.
ويبدو أن السيناريو التمزيقي لليمن اليوم سينتج عنه حاجة للوحدة الوطنية بأسس وأشكال مختلفة، ولن يتحقق ذلك إلا بعد إنهاء الحرب، وعقد اتفاق سياسي ومصالحة وطنية، وبناء جيش وطني قوي بعقيدة وطنية، واستعادة السيادة، وتشكيل حكومة تعمل على كل الأصعدة، لتسير بالبلاد إلى الأمام، مغادرة ماضي الصراع، ومُعلية مصلحة اليمن فوق كل القوى والجماعات والمصالح.