الصوت السياسي الجريح

شعر أنه هز السلطة، وهزئ بالمؤتمر الحاكم، وأشاد بالإصلاح، وسخر من الأداء الرسمي للدولة، ودعا الحزب الحاكم لتوسيع قاعدة الحوار الوطني، وألهب مشاعر الجماهير إعجاباً وتصفيقاً... ومع ذلك كان صوت الدكتور ياسين سعيد نعمان غائر الحزن، واضح الجرح.
للمرة الثانية أسمع صوته المجروح يتحدث (محذراً) عن توظيف الورقة الأمنية لحسابات سياسية، كانت الأولى عقب كشف رئيس الجمهورية قبيل موعد الانتخابات الرئاسية بيوم واحد فقط، عن صورة يظهر فيها حسين الذرحاني، الذي قالت السلطات الأمنية إنه متورط بأعمال إرهابية، واقفاً خلف بن شملان –مرشح اللقاء المشترك للرئاسة- في أحد مهرجاناته الانتخابية.
حساسية التوقيت وجهت ضربة كادت أن تقصم ظهر المشترك، فالمسافة الزمنية بين إعلان الصورة وموعد الاقتراع أقل من 24 ساعة، و«المشترك» لا يملك إعلاماً مرئياً أو مسموعاً لتوضيح وجهة نظره، والوعي السياسي والثقافي لدى عامة الناس لا يشجع.
وصدر"ياسين" في ذلك الوقت– كبقية قادة المشترك- يمتلئ غيضاً مما يصفونها بـ"المكايدات والخروقات"، فتحدث بصوت مجروح، وحزن بالغ، عن توظيف الورقة الأمنية لحسابات سياسية.
وسيان إن صدق "ياسين" أم لا، فقد كان مجروحاً، فقير الحيلة، أراد أن يقول شيئاً، فقاله قحطان بالإنابة، حفاظاً على "شعرة معاوية" التي طرفها بيد ياسين.
ظل شعور قادة المشترك بأن توظيف الورقة الأمنية سياسياً قد أحرقهم،جاثم على صدورهم باستمرار، والبيان الأخير للمشترك من أحداث صعدة،أو كلمة أمين الاشتراكي باسم أحزاب المشترك في المؤتمر الرابع لشقيقهم الأكبر (الإصلاح)، والبيان الختامي لهذا الأخير، كلها تصب في اتجاه دليل واحد ؛ هو أن الجرح الذي خلفته صورة مرافق بن شملان لا يزال غائراً،مضافاً لذلك تغييب المشترك عما دار في الاتفاق الموقع ببين الحكومة وجماعة الحوثيين، في ال28 من فبراير 2006م.
لهذا اعتبروا بياناتهم فيما يتعلق بقضية وطنية بحجم "أحداث صعدة"،ردة فعل طبيعية لسلوك السلطة إزاءهم، لأن هذه قوى سياسية فاعلة وموجودة على الأرض بقوة، وتحتاج إلى توافر معلومات كاملة حتى تبنى عليها رأياً، وتحدد موقفاً، وحين لم تتوافر طلباتها، جاءت تلك البيانات التي لم ترق لمن في الحكم.
لم يشأ أمين الاشتراكي – وهو القادر- أن يقدم دروساً في علم السياسة، أو في أبجديات الحزبية، أو حتى في آداب الاختلاف مع الآخر، بقدر ما هدف في كلمته أمام مؤتمر الإصلاح إلى كشف النقصان الذي يعتور المختلف فكرياً وسياسياً، حين لا يعترف إلا بكامل الفكر، وصوابية الرأي والرؤية.
فقرات البداية في كلمة ياسين أفصحت عن تراكمات تملأ هذا الصوت السياسي الجريح، ففي البدء تحدث عن "الفكر السياسي اليمني الخارج لتوه من سراديب الشمولية والاستبدادية ومفردات الحقيقة المطلقة، وأيديولوجيات الكراهية والإقصاء".
مفردات ربما دفع حزب "ياسين" نصف ثمنها سياسياً، ودفع النصف الآخر دماً... تذكروا "جار الله" الذي قتل بأيديولوجية الكراهية، و"ياسين" الذي هُدد بذات الأداة، (لأنه لم يعلن توبته بعد)!!.
وفقرة "ياسين" تلك تخص من في القاعة أكثر ممن هم خارجها، لأن من هم في الخارج (السلطة تحديداً)، قد بدأت الرسائل التالية تصلهم تباعاً،كمطالبة ياسين ب: "إعادة الاعتبار للإرادة الشعبية في تقرير الخيارات السياسية، وبناء الدولة على قاعدة المواطنة"، والتحذير من "غياب التراكم الإيجابي لنضال الجماهير يدفعها إلى اليأس"، وخطاب ياسين للحزب الحاكم أن "عليه أن يتسع للمعارضة كما تتسع هيئاته للمتساقطين من أحزابها"، في إشارة إلى احتفاء الحزب الحاكم بالقيادي الاشتراكي، أحمد بن دغر، كلها عبارات واضحة الدلالة والقصد، ترفع عنَا كلفة التفكيك والتحليل، حتى تلك التي سخر فيها من أداء السلطة والدولة في السياسة المالية والاقتصادية، وأحداث صعدة، والصومال والقرن الأفريقي،كلها واضحة الدلالة والجرح، إلا أن اعتباره للإصلاح "إحدى الضمانات الأساسية، بل والركائز المتينة لمستقبل التعددية السياسية والفكرية في اليمن"، يحتاج إلى توقف وقراءة، هل يقصد الإصلاح بوصفه الديني ذي المشروع الأخلاقي القيمي، أم الإصلاح الطامح للسلطة، والتغيير السياسي، المترصد لهفوات الحاكم، أم كليهما معاً، وهو ما يعني إمكانية قيام حزب بديل للمؤتمر الحاكم، وإن لم يكن الأخير بهذا القدر من الكمال!.
للإصلاح تجربة قوية وواضحة حين زاوج بين المشروع الديني (الأخلاقي) والسياسي الحزبي، فيوم أن كان أكثر التصاقاً بهموم الناس، بادلوه ذات المشاعر، وتمكن من جرهم إلى أتون العمل السياسي، ولنا قراءة تجارب عدة من المظاهرة المليونية 1990م (الدستور العلماني)، إلى دورات الانتخابات البرلمانية في 1993-1997-2003م؛ حيث يتراجع حصاد الإصلاح البرلماني، كلما تراجع عن مشروعه الأخلاقي الاجتماعي، واندفع نحو مشروع العمل السياسي.
قبل أن تكتمل 24 ساعة على كلمة أمين الاشتراكي في مؤتمر الإصلاح الرابع، السبت قبل الماضي، كان إعلام المؤتمر الحاكم قد أخذ بحقه و(ثأر) لنفسه، مما اعتقده انتقاصاً غير مبرر، وتحت مشروع الدفاع عن النفس استخدم مفردات "التخوين"، و"التسولـ"،و"الكراهية"، ضد ياسين، كجزء من ثقافة "البادئ أظلم".
كان بإمكان ياسين أن يعمل شيئاً واحداً فقط: العودة إلى ما كتبه عنه الإعلام الرسمي والتنظيمي للمؤتمر الحاكم، من تبجيل وتقدير، وإلباس قامته أفضل الأوصاف وأطيبها، عندما قرر العودة إلى الوطن في أواخر العام 2003م، أو ما كتب عنه في يوليو 2005م عندما فاز بمنصب الأمين العام للحزب الاشتراكي، واستقبال الرئيس له في دار الرئاسة، بوصفه "قيادة وطنية خالصة"، معتدل في الفكر والطرح والتعامل.
لا أدري لماذا لا نعرف كيف نختلف مع الآخر، ونجرده من كل القيم الإنسانية والوطنية إن قال رأياً جانف فيه ما نهوي؟!
الآخر ليس عاملاً في فرع مستودع نملكه حتى يتصرف بأمرنا.
ياسين سخر وتهكم وانتقد بمخالب جارحة،المؤتمر وحكومته والأداء الرسمي للدولة، لكن ذلك لن يكون مبرراً لاتهامه بخيانة الوطن، وأنه "سيظل ملاحقاً بغضب الله والشعب ولعنة التاريخ"!!.
هذه عبارات لم تفكر حكومة المالكي بإلصاقها بصدام حسين!!.
والحديث عن "ياسين المتسول من الخارج، لبناء الحزب الاشتراكي"،هذه أصبع تهمة يشير رأسها نحو "ياسين"، وجذعها نحو الدولة التي لم تعطه ما يمكنه من استعادة عافية حزبه، ويغنه عن التسول والتجول خارج البلاد.
ثم إن الحديث عن التسول من "الخارج" لغرض البناء والتنمية، لم يعد تهمة يمكن إلصاقها بأحد دون غيره، "فكلنا في الهم شرقُ "،وجميع الأحزاب والمنظمات المدنية والجكومات المتعاقبة منذ ثورة سبتمبر وحتى الآن اتجهت إلى الخارج لطلب المساعدة والمعونة، وما من عيب في ذلك، فعدد من الأحزاب والدول الأوروبية وقفت على قدميها بعد معونات ومساعدات الآخرين.
ولولا تهكم ولمز شاب كلمة الدكتور ياسين لكانت إلى جانب كلمة عبدالرحمن الأكوع، الأمين المساعد للمؤتمر الحاكم، من أفضل الكلمات، التي قدمت خطاب سياسياً مسؤولاً ومتزناً، انطلق من خطورة المرحلة، وحساسية الظرف الجاثم على أنفاس الوطن، يزيد عن هذا قاسم مشترك، وجسر متين امتد بين الكلمتين، فالأكوع جدد دعوة المؤتمر لإسدال الستار على مخلفات مرحلة الدعاية الانتخابية، وما ترتب عليها من خطاب مأزوم لدى الطرفين في السلطة والمعارضة؛ إضافة إلى تجديده الدعوة للحوار البناء، وعين الشيء أراده "ياسين" في كلمته حين طالب بـ"توسيع دائرة الحور الوطني".
واعتقد أن ياسين سعيد نعمان من أكثر السياسيين اليمنيين حرصاً على التمسك بخيار "الحوار" منذ رئاسته لأول برلمان يمني موحد (1990-1993م)، وموقفه من الأزمة التي كانت تباشير لحرب الانفصال في صيف 1994م،وأتذكر أن أول تصريح له عقب توليه موقع الأمين العام للحزب الاشتراكي في 31 يوليو 2005م، شدد فيه على توسيع خاصرة الحوار كضمانة حقيقة للعمل الديمقراطي، حين قال: "لا يمكن للحياة السياسية أن تتعافى إلا بتوسيع دائرة الحوار".
arefabuhatemMail