نافذة.. مراهق المصادفات

نافذة.. مراهق المصادفات - منصور هائل

أصبحتُ معنياً بالإحتراس من الانزلاق إلى غواية اقتراف الاحلام المستحيلة التي غدت تستوجب الحراسة والضبط، منذ لحظة إدراكي لتناسلها من رحم المصادفات، واقتناعي بأن حياتي محكومة بسلسلة متعاقبة ومتراكمة من الصدف التي حسمت مجرى حياتي من لحظة هبوطي الأول وارتطام رأسي بسطح أرض يمن «الحكمة والايمان»، وهو مكان غير مناسب، من وجهة نظري علىالأقل. ولست مدعواً إلى التسبيح بحمد المصادفة الخاطئة. ولن تنفع الحسرات المتأخرة في رد امتحان الاقدار أو في قطع مسار المصادفات الخاطئة -غالباً- التي كانت العنصر المهم في تكويني وتشكيلي. لأن الأنفع هو التكيف وتمرين الذات وبأقصى حدود الصرامة على الاحتفاظ بلياقة الاقامة بمملكة الامان المتعالية في أقاصي العتمة.
وبالنظر إلى تحدري من تلك المصادفات سوف أبوح بواقع أني طالما أحسست بأني قد عشت وقائعها في حياة سابقة غير ملموسة، ولكن أن تقولوا إنها كانت أضغاث «أحلام»، ولست في وارد مسايرتكم، لأن ما يتكرر من وقائعه صار واضحاً بفداحة تكفلت بتوطين اقتناعي بأن وقائع المصادفات التي ستتقاذفني في قادم الايام قد حدثت سابقاً، ولن تكون مملة تماماً، لأنها لم تحظ بحقها من الأرشفة والتوثيق، ولم أندفع إلى استجلائها في كتب تفسير الاحلام حتى لا أفقد مقابلتها ثانية وأتذوق فاكهة الحنين وهي طرية، واستطعم عنفوانها عندما يوحي بأن الامور لم تكن!
هكذا أصبحت الشخص الذي كان، وغدوت ملزماً بالتصالح مع وضعي هذا بإتقان، وأصبح هذا الحال يروقني، خاصة أني أعيش في وسط فقد حاسة اكتشاف الاشياء المستنفدة والمستعادة بتكرار سخيف وعنيف لا يدهس غير من يقع في مهب الصدف، وفي مدارب سيولها، وتحت قصف انهماراتها.
وعلى سبيل المصادفة ذهبت بي المصادفة مطلع هذا الاسبوع إلى قناة «الجزيرة» بعد انقطاع مقصود لإراحة النفس من الحروب ومشهد الرؤوس المقطوعة. وكانت الجزيرة تبث الحوار بين غسان بن جدو ورجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي ورئيس الحزب الاسلامي الذي فاز برنامجه بتأييد الناخبين وتسلم زمام الحكم.
كنت اتابع الحوار الممتع وخطر في ذهني أنه يتزامن مع عقد حزب الإصلاح لمؤتمره العام. وتكفلت تلك الخاطرة بانزلاقي إلى اقتراف الحلم المستحيل. وجال في ذهني أن مؤتمر الاصلاح خصص جلسة لسماع الحوار واعتمدها كفاتحة شهية لمؤتمره العام بقصد الاستفادة والاعتبار -إن أمكن- من مسار تجربة الاسلاميين الترك على طريق الانخراط في الحداثة من خلال اتخاذ التدابير الكفيلة، للتكيف مع متطلبات ومؤسسات وعلوم وتكنولوجيا وقيم العصر.
وتماديت في الحلم وعشت وقائع جلسة الشهية التي شهدت حواراً حول خبر إلغاء البرلمان التركي -بطلب من الاتحاد الاوروبي- لعقوبة الاعدام، وإقرار الحق في حرية التدين، وتبني تركيا لقيم حقوق الانسان، واتفاقية منع التمييز ضد المرأة.
وتطرفت في الانفعال الحالم عندما ذهبت إلى اقتفاء المنحى الاصلاحي الجاد في البرهنة على تكريس ثقافة التداول على قيادة الحزب، وتمكين المرأة، والانتقال من دائرة «الفتوى» إلى المؤسسة والسياسة، ومن الانحباس في ثنائية شيخ القبيلة وشيخ الفتوى، ومن التراتب إلى المساواة، ومن الحلال والحرام إلى قيم حقوق الانسان، وكل ما من شأنه تأكيد مقدرة العقل الاسلامي في اليمن على احترام الحداثة واحتذاء النموذج التركي.
فجأة رنت أجراس الحراس -حراساتي- تستوقفني: أنت في اليمن يا هذا، فلماذا تخالف طبعك وطابعك وتتنكر لواقع انك ذلك الكائن الذي كان، وتندمج في غواية الاحلام ثم تنتهي، كالعادة، إلى الاعتذار من أحلامك وتبرر ذلك بحكم «الصدفة التي لم تعد تحتملك!!»!؟
mansoorhaelMail