لبنان وجليد الأزمة

لبنان وجليد الأزمة - عبدالباري طاهر

من الصعب بقاء الأزمة اللبنانية عند تخوم اعتكاف أهل الحكم في السرايا و اعتصام المعارضة في الميادين العامة، وبالأخص ميدان رياض الصلح وساحة الشهداء. فلبنان شعب "عاملـ". وحركته و نشاطه اليوم مرتبط بالتجارة و السياحة. وكلاهما بأمس الاحتياج إلى الأمن والسلام والاستقرار.
الفاجع ان أهل الحكم وغالبيتهم من التيارات الليبرالية أو المحسوبة عليها، تتأبى على الحوار. وترفض خيار  "حكومة وحدة وطنية".
اللافت ان جميع ألوان الطيف السياسي لم يعودوا معولين كثيرا على الانتماءات الطائفية التي تشققت جدرانها، وتسربت منها مياه كثيرة، فهناك أكثر من طرف سني خارج اللعبة و المعادلة: عمركرامي، سليم الحص، كمال شاتيلا و أسامة سعد. وهناك أطراف رئيسية من الموارنة يقفون في الصف المعارض: سليمان فرنجية، ولحود وعون و الأخير حصد غالبية الأصوات في العديد من المناطق المارونية.
أما الدروز الذين لا يشكلون أكثر من 10 % فهم منقسمون بصورة أكثر خصاما.
و لا تخلو الشيعة من الانقسامات الصامتة التي ربما تحجبها ضراوة و قسوة المواجهة مع إسرائيل إضافة إلى التهميش الذي طالهم بسبب القسمة على اثنين أساسيين هما: الموارنة و السنة.
ما يطفوا على السطح من صراعات ذات مسحة طوائفية في بلد صغير يحتضن 17 طائفة لا يشي بالحقيقة. فالتصدع والانقسام قد رافق هذه الطوائف منذ الولادة سواء في خلافاتها السياسية أو تحزباتها المتناحرة في أحايين كثيرة، وبالأخص في الصف الماروني: الكتائب، والوطنيون الأحرار والمردة، وأخيرا القوات اللبنانية. وصراعات أمل الشيعية و حزب الله في الجنوب كانت الأنموذج الأكثر عدائية ودموية. فالتصارع داخل هذه الطوائف هو الأكثر دموية منه خارج الطائفة أو مع الطائفة المنافسة. ويقينا فإن التدخلات الخارجية تذكي النار في هشيم علاقات ليست بالسوية.
الخلافات المتفجرة حد المواجهة بين المعارضة والموالاة ليست بعيدة عن القرار 1701 و هو القرار الذي يطال سلاح حزب الله و يريد ان يحقق لإسرائيل ما عجز جيشها الغازي عن تحقيقه.
يدرك حزب الله و حلفاؤه أن الحكم والموالاة يلعبون بهذه الورقة، مسنودين بتأييد عربي و دولي قل نضيره. وربما ان حزب الله وأمل قد دُفعا دفعا للخروج من الحكومة و النزول إلى الشارع بسبب الاستعجال في القبول بالمحكمة الدولية دون إعطاء شركائهما في الحكم حق الاعتراض أو الملاحظة. ما يظهر من قمة جليد الأزمة اللبنانية يخفي صراعات أكثر بعدا وتعقيدا واتساعا. فالتململ الشعبي آخذ في التصاعد. وتفكك الطوائف وتشرذمها يحل محله وعي جديد لفئات وشرائح فتية تراهن على العصر أكثر من الماضي.
لبنان هو البلد العربي شبه الوحيد الذي عرف التعددية السياسية والحزبية منذ مطلع القرن الماضي. وقامت حكومته ذات الطابع الطائفي على تعددية فكرية و سياسية. و حرية رأي و تعبير تتمتع بالاستقلالية و الكفاءة. ويرجع صمود لبنان في وجه الاحتلال الإسرائيلي و مقدرته على هزيمة جيش الاحتلال، والانتشار السريع، والمارنز إلى ضعف الدولة و أجهزتها القامعة. وقوة المقاومة الشعبية التي يمثل حزب الله امتدادا لها.
لم تكن أمريكا وفرنسا بريئتان. وهما يقدمان صيغة القرار 1701 لمجلس الأمن. فهما يعرفان ان نزع سلاح حزب الله الذي وضع بيد الحكومة اللبنانية سيكون بمثابة الصاعق في العلاقة بينهما. سلاح حزب الله الذي هو مصدر قوته و صعوده وصموده هو في نفس الوقت مصدر ضعفه واستهدافه. فهذا السلاح الذي انتصرت به لبنان في مواجهة إسرائيل يصبح خطرا في معركة الداخل “السياسية“. خصوم حزب الله يدركون أيضا نقطة الضعف هذه. ويشتغلون عليها سواء باستعداء أمريكا وأوروبا وحتى إسرائيل. وفي نفس الوقت يعمدون إلى الاستفزاز والتحرش لجر الحزب لمعركة فتنة طائفية سيكون الخاسر الأكبر فيها الشعب اللبناني وحركة المعارضة كلها وخصوصا حزب الله.
لا ينبغي قراءة ما يجري في لبنان بمعزل عن الوضع في فلسطين و العراق و السودان وحتى الصومال وأفغانستان؛ فالتشابك في الأحداث مع الإستراتيجية الكونية لأمريكا وحلفائها واضح حد اليقين. وإذا كانت سياسيات بوش الحربية “ الإيمانية “ قد تراجعت فان سقوطها وانحدارها لا يزال بعيدا. وما نشهده من تغيير في التكتيكات العسكرية والسياسية بعد السقوط المدوي للجمهورين في الكنجرس ينعكس على الأوضاع في لبنان و فلسطين و العراق بخاصة، ومختلف بلدان الشرق الأوسط. يريد حزب الله ان يحقق فوزا في الحكم يتوازى مع الانتصار الإلهي، حسب توصيف أمينه العام للمعركة ضد إسرائيل. و لكل واحد من حلفائه حساباته الخاصة. فالجنرال عون عينه مفتوحة على الآخر على رئاسة الجمهورية مع رغبة في المشاركة في الحكم. وهي مشاركة يفرضها وجوده في مجلس النواب ممثلا.
أما عمر كرامي فلا اقل من إشهار سلاح التظاهر الذي اسقطه به فريق 14 آذار.
و لا يمكن فهم تصلب أهل الحكم بغير الإنغرار بالدعم الخارجي، و الرهان على تفكك المعارضة أو ارتكاب حماقات تخلط الأوراق، وتفرض حلا دوليا سيكون حتما لصالح “ الأكثرية “.
لا مخرج لمأزق الحكم والمعارضة غير الاحتكام إلى العقل و الحرص على العيش المشترك. فلبنان بلد التنوع و التعدد لا يمكن لأي طائفة أو طائفتين أو حتى طوائف ان تلغي صيغة التوافق و التعايش التي قام بها وعليها الكيان اللبناني. كما ان صيغة التقاسم الطائفي، كما رسمها الاستعمار الفرنسي لم تعد هي الأخرى مقبولة؛ فالغبن الطائفي قد اضر بجميع الطوائف بما فيها الموارنة والسنة. والأهم من الخلاف على تقاسم الحقائب الوزارية التوافق عل صيغة ديمقراطية تعيد رسم الخارطة السياسية في بلد وشعب دفع غاليا في مواجهة التحديات الخارجية: أصالة ونيابة منذ منتصف القرن الماضي. ويجد نفسه في مطلع القرن الواحد والعشرين في الخندق الأول مطالبا بسداد فواتير نفسه وغيره.