بن شملان يضع خطى التغيير

بن شملان يضع خطى التغيير - محمد الأسعدي

لا تزال ترافقني صورة لأناس كان صمتهم يهتف باسم “بن شملان” وهم يحملون صوره في إحدى مديريات محافظة عمران في أول أيام الحملة الانتخابية لمرشحي الرئاسة. لو كان ذلك الموقف حدث لدى استقبال “بن شملان” لكان الأمر طبيعياً، ولكنه حدث أثناء مرور موكب الرئيس صالح –المرشح آنذاك– في طريقه إلى صعدة حيث دشن حملته الانتخابية هناك. انتابني شعور بالامتنان للقلة التي وقفت تحمل صور بن شملان بين زخم من البشر يهتفون بحياة الرئيس ويرددون أسطوانة الفداء بالروح والدم.
حينها عبرت عن مشاعر الامتنان والسعادة لذاك المشهد لأحد الزملاء في الفريق الإعلامي المرافق للرئيس في زيارته الأولى لمدينة صعدة بعد الأحداث الدامية التي دارت رحاها في صيف 2004 ولا تزال آثاراها حتى اليوم وربما ستستمر لعقود قادمة، كون التاريخ لا يتجاهل صانعيه، مهما أراد البشر الالتواء عليه إلا أنه يوثق لكل شيء بدءًا بالأخطاء. على كلٍ جزئية التاريخ هي الشاهد هنا لا الأحداث ذاتها.
صورة أخرى تلتصق بمخيلتي وأنا أحاول أن أقرأ وجوه الناس في مدينة إب أثناء زيارة خاصة صادف وقوعها بعد التدافع المؤلم الذي راح ضحيته عشرات البشر أثناء المهرجان الانتخابي لمرشح المؤتمر. الحادث تألم له الجميع لكن هناك عناصر في المعارضة اعتبروا المصيبة هدية ستقلب الكفة لصالحهم، فاتكلوا عليها وناموا ليحصد المؤتمر ومرشحوه أصوات المحافظة.
الصورة الثالثة هي لامرأة جيء بها من مكان بعيد للعلاج، وعندما أدركت أن فترة علاجها ستتجاوز يوم الإقتراع وستظل بالمدينة مدة أطول، لم تتذكر أطفالها أو أسرتها بل حزنت أنها لن تستطيع أن تنتخب مرشحها الذي تعتقد أن بيده الخلاص لأنها نسيت بطاقتها الانتخابية في القرية.
– ما العمل؟ هكذا قالت لي أمي ونحن في الطريق إلى صنعاء. وبغض النظر عمن كان مرشحها، لكن حرصها على المشاركة هو ما شد انتباهي.
ماذا يصنع أولئك في قرى عمران التي أهملها الأقوياء منهم ليعيشوا في ترف من العيش ويبقوا على أولئك على ما هم عليه؟ ماذا تصنع أم في قرية الرمادي المنسية على هضبة بين جبال تخاصمت صخورها مع ذاتها، في مديرية فرع العدين التي يطلق عليها المسؤولون “نائية”، ولا أظنها كذلك لكنهم هم من أقصوها فسموها؟
أناس تحدثوا عن الانتخابات وتحمسوا لها من قلوبهم. الجماهير في عمران وإب والحديدة وسقطرى والضالع وغيرها من محافظات اليمن الكبير ينازعون الساسة صناعة ديمقراطية حقيقية، بل هم في نظري صناعها الحقيقيون. ما الذي جعلهم يفعلون ذلك؟ أهو الوعي فقط؟ نحن ندعي أننا أكثر وعياً، لكني تنازلت عن مرشحي أمام بائع قات تجنباً لإضاعة الوقت وتبسيطاً للأمر.
من صنع الوعي بأهمية المشاركة؟ تكرار التجربة والعملية الانتخابية فقط؟ أم أنها الحملات المكثفة التي تبنتها الأحزاب؟ الأمر في نظري أبعد بكثير – فيما يخص الانتخابات الرئاسية تحديداً.
العامل الأبرز هو التنافس، الذي أيقظ قوى الأطراف المتنافسة للحشد الهائل لتلك الانتخابات. وهل هو التنافس فقط أم المنافس لعب دوراً؟
العامل الأبرز هو شخص يرتدي فوطة يغلب عليها اللون الأخضر، وقميص سماوي، وشعر أبيض كأنه استعار من السماء قميصاً ومن السحاب تاجاً. يجلس أمامي ضيفاً في حوار صحفي. لطالما حاولت أن أكون أسبق من زميلنا الصوفي إليه، لكني لم أبذل جهدا كافياً حينها. كنت أشعركم هو جميل أن تجلس مع “رئيس” يرتدي ملابسه التي يختارها ولا تختار له، ويتكلم بما يريد أن يقول، لا بما يقال له. كان ذلك الضيف هو المهندس فيصل بن شملان.
سألني صحفي ياباني وغيره: لماذا اختارت –أو كما يسخر البعض: استأجرت– المعارضة بن شملان؟ لم أكن أعرف جواباً غير أنه نزيه ومحايد ومطلع ومهتم بقضايا التغيير ويمتلك رؤية وغيره. أتمنى لو يعاد لي السؤال، لكان الجواب أشمل وأدق.
سأقول: إن بن شملان هو من ضحى بصحته وأجهد نفسه من أجل التأسيس لعمل سياسي قائم على التنافس الجاد وليس التنافس الشكلي لأنه قبل الخوض في معركة كانت نتائجها النهائية محسومة سلفاً. أقول معركة، لأنه قال لي إنه لم يكن طامعاً في منصب رئاسي أو غيره وأُكره على القبول بالترشح وأن التنافس مع مرشح بحجم الرئيس صالح بما يمتلكه من تاريخ واسم ونفوذ سياسي وقبلي وغيره، ليس أقل من معركة.
رغم ذلك كان بن شملان يريد أن يؤسس لدولة المؤسسات والقانون والتعددية السياسية، كان يريد أن ينقذ اليمن من فوهة البركان المتربص به حسب قوله. كان يريد أن يكون رئيساً من أجل اليمن. كان بن شملان متفائلاً (في حديثه الصحفي) بالفوز بالانتخابات لفترة سبعة أعوام، ربما لو فاز قد تدفعه الظروف للاستقالة في الشهور أو السنين الأولى إن لم يستطع تنفيذ برنامجه. لكن النتيجة أتت على غير المتوقع تماماً.
ذهبت بنا نتيجة حضور بن شملان خلال الشهرين الماضيين بعيداً لتمنحه فوزاً أبدياً أولاً في قلوب كل البسطاء الذين يجتهدون، ويتفاءلون ولا يصلون. وثانياً في قلوب العقلاء من الناس. وثالثا وليس أخيراً في قلوب كل أولئك الذين نافسوه من المرشحين –إن لم يكن للموقف السياسي بل لشخصه النبيل وقد ناء بنفسه ومن قدموه عن أن يكون جارحاً في طرحه وخطاباته.
ألا يكفي أن بن شملان منح المؤتمر الشعبي العام، الحزب الأكبر، فرصة في إعادة النظر في الثقة المطلقة بقناعات الناخبين ومنحه دروساً في العمل التنظيمي؟! لقد جمع فرقة الحزب الحاكم في مواجهة اللقاء المشترك، فهو من جعل الحزب الأعظم يشعر بالقلق ويسخر كل إمكاناته في سبيل إعادة مرشحه للسلطة. بدا حزب المؤتمر أكثر تنظيماً وأكثر اهتماما بالتفاصيل من المعارضة والفضل يعود للمرشح “المستأجر” الذي شبهته المعارضة بسيدنا موسى عليه السلام حينما وصفته ابنتا شعيب: “إن خير من استأجرت القوي الأمين”.
بعيداً عن المواقف السياسية والتنظيم الحزبي والرقابة الذاتية التي تجلدنا صباحًا ومساءً، ينبغي القول إن على الرئيس صالح أن يكون ممنوناً ل بن شملان، لو لم يكن لما سبق ذكره، فليكن لإضفاء صفة المنافسة الحقيقية للانتخابات ولأنه كان نبيلاً في خطاباته ولم يتعصب رغم السواد الذي تطرحه المعارضة والذي يقتنع هو بمعظمه.
بن شملان إن كان من صوت لصالحك مليون مواطن- حسب النتيجة –فثق أنك صنعت تاريخاً نعيشه اليوم وغداً وأسست للتغيير وإن كان بعد أمد. أطفالنا مثل “سماء” بنت الثلاث والتي نادتك “جدو” دون أن يطلب منها أحد، تحمل لك حب الأجيال القادمة وامتنانها.
ستدرك الأجيال القادمة كم كنت كريماً وشهماً معهم حينما منحتهم نزاهتك وسمعتك وصبرك بقبولك خوض تلك المعركة. فإن تنكرت لك الأحزاب المشتركة كلها أو بعضها يوماً فلن تنسى سماء “جدو” ولن يغفل التاريخ دورك.
وتبقى لدي رغبة وهي نابعة من حرصك على هذا الوطن وقد أكدتها لي-في ذات الحديث الصحفي– أنك ستمد يديك للتعاون مع الحاكم في تقديم رؤاك الاقتصادية من أجل إصلاحات شاملة، إذا ما طلب منك. نتمنى أن تستفيد السلطة من خبرتكم وحماسكم الذي أيضاً نتمنى ألا ينقطع.