طيف "الحمدي" لا يفارقهم وذكريات خلت

طيف "الحمدي" لا يفارقهم وذكريات خلت

العجائز يثورون أيضاً
بشرى العنسي
قارب أذان المغرب، لكن قدمي الحج سعد ترفضان الاستسلام، تصران على حمل وهن جسده المترنح بخطى الأمل. خطوة هنا وخطوات هناك. لا تهمه الوجهة دامه في ساحة التغيير. يتحايل على الرياح تارة ويستجديها تارة أخرى ليرفرف علمه عالياً.
ولد ليكون مناضلاً في عهود مختلفة: "كنت مناضل أيام الجبهة الوطنية". من حروب المناطق الوسطى إلى الآن يبحث سعد محمد علي عن حلم يعرفه وحده: "أيام الحمدي كان في استقرار ومشاريع، والخطة الخمسية عملها الحمدي".
إبراهيم الحمدي؛ هذا الرجل لا يغادر ذكريات من عاصروه. لقد صار وشماً على قلوبهم وعقولهم. والوفاء لعهد جميل دفع بسعد ومن في سنه لساحة التغيير. "كنت مع المعارضة ثم انضممت لثورة الشبابـ". سنوات عمره التي لا يعرف عددها أسعفته ليشهد ثورة أخرى "رغم إن إحنا شيب، لكن الحمد لله أننا عاصرنا هذه الأحداث".
مع الجماعة رحمة
بين ماضيه وحاضره كان يجلس نعمان عبدالله سفيان. بدا واضحاً أن قدميه خانتاه! فارتزح إلى ذكرياته وسط هتافات تطالب بإسقاط النظام. عمره غير مؤرخ "مش مؤرخ عمري، لكن تقدري تقولي كذه 60 سنة". لم يكن هناك داعٍ للتكهن، فخطوط عمره محفورة بدقة على وجهه ويديه.
السؤال عن سبب تواجده في ساحة التغيير بدا غبياً جداً! فهذا الرجل الجالس على تعبه يعرف ما يريد "نريد إسقاط النظام الفاسد". هو أيضا لا يريد أن يفوته ركب الشباب "مع الجماعة رحمة".
وها هو ذا صاحب الذمة يُبعث مجدداً "أفضل الأيام أيام الحمدي، لأنه رجل متعلم وعنده ذمة". عند الجد نعمان لا مجال للمقارنة نهائياً بين ما كان وما هو الآن "أما هذول خاربين!". يقينه ثابت كما نَصب الحكمة الجالس خلفه "بايسقط، بايسقط". لم لا! والله معهم "فرج الله قريب، قريب، قريبـ".
العيش بكرامة وحرية مطلبه منذ شبابه، ولهذا سعى إليه: "هذا ما نطالبه من بداية الدهر. ناضلت أيام حرب البريطانيين في عدن معهم، وكنت أوزع الجرائد وحُبست". اللهجة التعزية والشموخ العدني كانا طاغيين.
ساعات متباينة معلقة على دهر الجد. ساعة نضاله دقت فحضر للساحة، وساحة الرحيل تدق الآن لتخبره بقرب رحيل آخر "هذا آخر الظلم حقهم". لا خوف بعد الآن! فالشعب صار يعرف طريقه "الشعب الآن متعلم وفاهم". لكن التضحية من أجل الجميع واجبة: "أعمل لوجه الله والمجتمع".
ريال الأمس وزبادي اليوم
على عكس من سبقوها، كانت شهية الجدة "سيدة" مفتوحة للكلام. وربما لم تكن هناك حاجة لسؤال استفتاحي يطلق لسانها! فحق النضال لم يسقط عنها بعد، وهي المشارفة على ال80. الحنق والحماس كان المسيطر "جيت مثلما جئتم أنتم، تجزّعوا علي عبدالله صالح". قبلة على رأسها كانت كفيلة لتشعرها ببراءة السؤال وأهمية وجودها.
الأخذ والعطاء مع "الجدة" كان صعباً، خاصة في ظل الهتافات المدوية في الساحة وسمعها الذي غدرت به السنون. لذا فقد كان المجال لها مفتوحاً لتبحر في ذكرياتها المختلفة وتفجر مكبوتاتها. "كل شيء كان رخيص، والعسكري مرتبه 10 ريال. وبريال يقدر يشتري كل حاجة". وحينها تذكرت الزيادة التي طرأت على علبة الزبادي: "الحبة الزبادي زادت 20 ريال. قدها ب120".
حشد من المشاعر المتفاوتة بين الاستياء والاستغراب والسخرية من الوضع الحالي، قفزت فجأة لوجهها ويديها "نسوان عندنا بالجبل -منطقة على شارع الستين- كانين يشترين بالجمعة نص دجاجة، تصدقي! نص دجاجة. والآن ما يقدرينش يشترين"..
السبب لديها كان جاهزاً لتطفئ ثورتها "الرئيس جالس فوق الكرسي حقه والباقي يبلعوا". ثم حل طارئ كان محور حديثها لدقائق "شوفي بس الضرائب اللي يأخذوها من أصحاب البيوت والدكاكين كم هي! لو يوزعوها على الشعب لكفيتهم. لكن يأكلوها لبطونهم".
"الله أكبر، الله أكبر"؛ تعالت ميكرفونات الساحة معلنة صلاة المغرب. فرفعت الجدة سيدة يديها للسماء، وبدأت تدعو لخير اليمن وصلاحه، قبل أن تأخذ مكانها في صفوف النساء لتصلي على أرضية ساحة التغيير.
حسناء بنت الحج صالح
يكفيك فقط أن تنظر لعينيها لتشعر أن طيبة العالم وبراءته سكبت هناك. يمتلئ قلبك بالحنان والسعادة حال اقترابك منها في لحظة تُخرج من كيسها قطعة خبز وتمدها بيدها المرتعشة لفتاة جلست للتو بجانبها.
يستيقن القادم إليها أن لا مجال للكلام هنا. عليك أن تنظر وتنظر فقط لتقرأ إجابات أسئلتك وتغوص في مغامرات شيقة. أو ربما الالتصاق بحنانها ليغمرك بعض منه. هناء ذات ال12 عاما، كانت رفقة جدتها، تحاول أن توصل بعض كلام الجدة غير الواضح. "الله يأمنا". وبعد أن تلفتت حولها قالت "ما في الرجال والنساء هذول سخاء". دعاؤها ذلك اختصر النقاش وأبطل مشروعيته.
في ساحة التغيير، ومع أبطال تماهت أصواتهم مع صوت الشباب، وتهتك سمعهم عبر السنين، عليك أن تصرخ وتصرخ وتعيد كلماتك مراراً وتكراراً لتُسمعهم. ثم عليك أن تدنو منهم قدر المستطاع بحنان واهتمام، لتسمع همسهم وتقرأ خطوط أعمارهم. فتيقن أنها ثورة الشباب والشيب.
 
بين الشك واليقين قربة دم
قبل يومين اعتلت منصة ساحة التغيير هتافات تطلب 15 متبرعاً للدم زمرة "-o". وطُلب من الراغبين بالتبرع التوجه للمستشفى الميداني.
لم تمر لحظات حتى كانت بوابة المستشفى مكتظة بالرجال ذوي الزمرة السالبة، مما لم يدع فيها مجالاً لفتاة أن تهب دماءها للحرية، فنظرة ذلك الرجل كانت تقول: "نحن سنوفي ونكفي".
خلال أيام متفاوتة لم تنقطع نداءات المنصة للمتطوعين، ولم تتوقف طلباتها. فتارة تطلب حمالين لحمل الأحجار التي بنيت بها حمامات المعتصمين.. وتارة تطلب خطاطين، وتارة كهربائيين، وتارة... وتارة... ما يذهلك حقاً الكم الهائل للمتطوعين كل بحسب ما يستطيع!
تُسحل مشاعرنا بوحشية عبر الفضائية اليمنية وقناة سهيل. فيتشوه إيماننا وتتأوه طموحاتنا! ترمي كل قناة بخطافها لتنتزع ثقتنا أو أرواحنا، وربما كليهما معاً.
الباحث عن الحقيقة والموضوعية يتوه كثيراً بين القنوات الإخبارية بتوجهاتها المختلفة. يحاول البحث عن إجابة لسؤاله فيخرج بمائة سؤال. الإحباط تشرب نفوس الكثيرين، خاصة بعد الأخبار التي نشرتها الجهات الرسمية عن انسحاب شباب التغيير من ساحة الجامعة.
نتأرجح بين الشك واليقين حسب قوة المصدر الذي يجلب لنا المعلومات المحبطة. لكن التواجد في ساحة التغيير مع تلك التضحيات التي تراها بأم عينيك، ولا تحتاج معها لناقل، تخبرك أنك على الطريق الصحيح، وتثبت إيمانك بقضيتك ومطالبك.