عدن

عدن

إهداء.. إلى روح الشهيد أحمد درويش
رضية المتوكل
بعد أن رفعت السلطة يدها عن الاحتجاجات السلمية المطالبة بإسقاط النظام في صنعاء، توجهنا في مؤسسة حوار إلى عدن لرصد الانتهاكات ومتابعة الوضع عن قرب، أسبوع فقط.. كأنه عمر!
لم تكن هي نفسها عدن التي طالما هربت إليها من تعبي فاختزلتني في عمق بحرها وسكينتها، وأعادتني إنسانة تتنفس الحياة من جديد، لم تكن هي أبداً.. ليس فقط لموت الحركة الطبيعية في شوارعها وكثافة الانتشار الأمني المدجج بالأسلحة الخفيفة والثقيلة في مشهد يشبه الاحتلال، ولكن لأنني أيضاً أدرت ظهري للبحر وغصت في عمقها الآخر.
أهل عدن طيبون، مدنيون، لا تخلو بيوتهم من رفوف أنيقة تستند عليها الكتب، ولا تلهيهم فجيعتهم عن حسن الضيافة، تلمس في حديثهم مزيج من الألم والتواضع والعزيمة والعتاب، ومثلهم هي احتجاجاتهم.. يكذب من يقول إنهم غوغائيون يستخدمون العنف، ولا يحتاج الأمر كثيراً من الجهد لنعرف أن الرصاص الحي قتل وجرح من لم يحملوا حتى حجراً صغيراً في يدهم، بل إن ما يحتاج إلى جهد هو معرفة الأداة الأمنية التي قتلت وجرحت المحتجين السلميين.. الأمن المركزي؟ القوات الخاصة؟ القناصة؟ مدنيون بسلاح رسمي؟ وما هو السلاح المستخدم؟ آلي أم يدوي؟ ماء ساخن أم غاز مسيل للدموع؟ تختلف الأسلحة والأجهزة وتتوحد جميعها خلف لهجة واحدة لا تمت للجنوب بصلة، لهذا لم أكن أعلم وأنا في عدن ما الذي يجب أن أفعله بلهجتي الشمالية.. هل أبرزها فيطمئنون أن أهل صنعاء يهتمون كثيراً لأمرهم، أم أخفيها لأنها قد تستفزهم في مطابقتها للهجة سلطة تتصرف معهم وكأنها محتل؟
تجولت في خيمة الاعتصام بالمنصورة، تأملت بتمعن كل الشعارات المكتوبة فيها سواء في لوحات قماشية أو بخط اليد على الجدران، كانت كلها تطالب بإسقاط النظام، استمعت إلى الناس وهم يهتفون، هي نفسها الكلمات التي يستخدمها شباب الثورة في صنعاء وتعز، انبهرت من قدرة أهل هذه المدينة المباركة على تجاوز سلوك النظام الانفصالي والالتحام مع الشمال في مطالب واحدة. لا شك أن خروج الشمال عن صمته في ثوب شعبي احتجاجي قد شكل حافزاً مهماً، لكن تبقى مع ذلك الاستجابة الجنوبية لصوت النضال الموحد قوة نفسية عالية لم ينجح الاستبداد في كسرها، علماً أني لا أتخذ موقفاً من الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال، بل إنه يبقى الحراك السلمي الشعبي الأول في اليمن، وربما الوطن العربي، وله قيمته أياً كانت مطالبه.
تواجه السلطة الاحتجاجات في عدن بقسوة أشد مما تفعل في صنعاء وتعز، ويسأل سكانها بقهر.. لماذا نحن؟ الإجابة المباشرة هي أن ضعف التركيز الإعلامي والحقوقي على أية منطقة في اليمن هو جواز مرور لمزيد من المظالم والانتهاكات، ويتكرر ذلك في العديد من مناطق اليمن مثل الحديدة، البيضاء، حرف سفيان.. وغيرها، لكن هناك إجابة أخرى.. أقل وضوحاً، ولكنها أكثر عمقاً، تنكشف بسفور داخل حي السعادة بخور مكسر، منزل الشهيد أحمد درويش.
كان أحمد شاباً عشرينياً ينبض بالحياة، "واد جدع" و" فتوة" بالمعنى الإيجابي، لا يرضى بالظلم ولا يقف أمامه ساكناً، هكذا يصفه من يعرفه، ويروي عنه المقربون منه قصص مناصرته للمستضعفين بحي السعادة، بروح شابة فتية وجسد أعزل، تماماً مثل عدن.
استفزت روح أحمد ومواقفه المناهضة للظلم داخل حي السعادة عناصر الأمن، ومن خلفهم حتماً السلطة، بل أرعبتهم كما ترعبهم عدن بمقاومتها ومدنيتها، اقتادوه في مداهمة أمنية لحي السعادة يوم 24 يونيو 2010، إلى سجن البحث الجنائي بعدن، وهناك حاولوا الانتقام من شبابه وكبريائه ومواقفه، قيدوه وانهالوا على جسده الفتي الأعزل ضرباً وتعذيباً أمام أعين زملائه.. قتلوه.. مات أحمد صباح اليوم التالي.
مأساة بحجم وطن، حملتها عائلة أحمد العظيمة ومن تضامن معها على عاتقها، عائلة نموذجية تحمل روح أحمد وعناده ومدنيته، أصرت أن ينال القتلة عقابهم، لجأت للقضاء، واتهمت مدير البحث الجنائي بعدن وأفراداً من الأمن المركزي الذين كانوا متواجدين أثناء الواقعة، رفضت كل الأصوات المحرضة لاستخدام العنف، وسلكت ومن تضامن معها كل الطرق المدنية السلمية للانتصاف، تماماً كما تفعل عدن.
في قضية أحمد توفرت كل الأسباب الموضوعية لينال المجرمون عقابهم (تعذيب حد القتل –شهود -عائلة لم تسكت عن حقها ولجأت للقضاء وكل الأدوات السلمية -محيط مساند -وماجد المذحجي: الناشط الحقوقي الذي ظل قلبه ينبض بالقرب من هذه القضية حتى أوصلها بجهد نوعي للمستوى الدولي)، ولكن لأن الفساد والإجرام في اليمن ليس سلوكاً فردياً لعناصر في الأمن، وإنما مؤسسة محمية من رأس النظام، فلا يزال القتلة حتى اليوم خارج دائرة العقاب، ولا زالت خيمة العزاء مفتوحة يحضرها عدد كبير من المتضامنين، بسلمية وإصرار.. تماماً كما هي عدن.
ومن هنا.. أقولها بصدق لأهل عدن.. هذا النظام لا يستضعفكم بل يخافكم، يخاف مدنيتكم وإصراركم، وأصبح مرعوباً أكثر بعد أن أصبح إسقاطه هو قضيتكم، صفعة قوية في وجهه تسقط من يده فزاعة الانفصال الذي يهدد بها الخارج والداخل، لهذا هو يقابل احتجاجاتكم بشراسة يائسة، لم تنجح في جركم لمستنقع العنف الذي يجيد اللعب بأوراقه.
وأختم.. بادرني أحد المعتصمين بساحة المنصورة قائلاً بحرقة: أترون ماذا يحدث لنا؟ لماذا بعد هذا تنزعجون حين نطالب بالانفصال؟ أجبته بحزم وخجل في آن واحد: لأننا نحب عدن.. قد يكون حباً أنانياً وعاجزاً، لكنني حقاً.. أحبك يا عدن.