مخابرات التسي تسي!!

مخابرات التسي تسي!! - حسن عبدالوارث

كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يُسرف في الإنفاق على "العيون" والبصَّاصين (أي رجال المخابرات). وذلك ما دعا أحد حكماء عهده ودولته إلى نصحه بالقول: "إنك يا أمير المؤمنين تُذكرني بالراعي الذي خاف على غنمه من الذئاب، فاصطحب كثيراً من الكلاب، ولكنه اضطر بعد ذلك الى ذبح نصف قطيعه لإطعامها"!!
معظم حكومات العالم تنفق على الأجهزة الإستخبارية والإجراءات الأمنية أموالاً طائلة. يكاد بعض حكومات الدول الفقيرة -وبضمنها الدول العربية والعالمثالثية- ينفق على هذه الأجهزة وتلك الإجراءات أكثر مما ينفق على سلة الخبز وقنينة الدواء والكتاب المدرسي وشرايين الاسفلت!
وبرغم ذلك فإن هذه الأجهزة، في تلك الدول، يتضح -يوماً إثر آخر- أنها أوهى من نسيج العنكبوت و أضعف من جناح بعوضة، والأمثلة على ذلك كثيرة، حتى أن بعضها يغدو "كعب أخيلـ" بالنسبة لأنظمتها.. فإذا بتلك الأنظمة تُصاب في مقتل أحيانا، لأن أجهزة استخباراتها -بسبب من التخمة وبالتالي الفساد- وقعت ضحية سهلة لذبابة الـ"تسي تسي"!!
وتعد الولايات المتحدة الأمريكية أكثر دول العالم إنفاقاً على الأجهزة والإجراءات الامنية. غير أن أحداث 11 سبتمبر -التي داهمتنا أمس الأول ذكراها الخامسة- أثبتت بالدليل الفاجع، أن مليارات الدولارات لم تستطع حماية الدولة الأعظم في العالم من جرثومة الإرهاب. والحال ذاتها تنطبق على دولة أخرى، تعد من أكثر دول العالم إنفاقاً على ترسانتها الأمنية، هي اسرائيل؛ فالعمليات الفدائية والإستشهادية التي زلزلت الشارع السياسي والأمني والشعبي الإسرائيلي من جهة، ونصر"نصر الله"وفرسانه الأشاوس من جهة اخرى، أطاحت بورقة التوت الأمنية عن العورة الإسرائيلية، بالرغم من أن الدولة -في إسرائيل- قائمة اساساً على النظرية الأمنية مائة بالمائة!!
في العقدين الأخيرين -على الأقل- قرأت عشرات الكتب والدراسات الاستراتيجية التي تؤكد فولاذية الترسانة الأمنية الأمريكية.. وهكذا ما كانت تُنِّوه به على الدوام مؤلفات "جان مينو" و"مايلز كوبلاند" و"شيريب سبيريدوفيتش" و"وليام غاي كار" وغيرهم كثيرون.. عدا مذكرات "آلن دالاس" وشقيقه "جون فوستر".. ثم الرئيس الأمريكي الأسبق "نيكسون ".
غير ان هذه الترسانة التي اطلقت رجالها و حبالها وعيونها وآذانها وأنوفها إلى كل شبر على سطح الكرة الأرضية، وفي فضائها الخارجي أيضاً، غفلت عن حماية محيطها الخاص، فكانت الفاجعة التاريخية التي لن تنساها الذاكرة الأمريكية الجمعية -بل و الذاكرة الدولية- ولو بعد مئات السنين.
وإذا كان القول الشائع "رب ضارة نافعة" ينطبق على حالة ما، فإن أحسن ما تنطبق عليه هو الحالة الأمريكية الراهنة، وما يتصل منها بالعنوان الإستخباري؛ إذ ينبغي -ليس على الإمريكان وحدهم، وإنما على الأسرة الدولية جمعاء- إعادة التفكير في أنجع الطرق والوسائل لتحقيق عوامل السلام والأمن والطمانينة في الحياة العامة للشعوب.. فقد ثبت -بالبرهان الساطع- أن المخابرات ليست قادرة وحدها على تحقيق ذلك، بل ربما تكون هذه الأجهزة عاملاً معرقلاً لخلق مثل هذه الأجواء المأمولة في حياة الدول والشعوب في القرن الحادي والعشرين، الذي سيشهد قاموسه وفاة كلمة "سرِّي".
wareth