الصورة والحقيقة، ما تقوله وما تستولي عليه

الصورة والحقيقة، ما تقوله وما تستولي عليه - ماجد المذحجي

“الصورة قاتلة الواقع"
 بورديار
يحضر أداء الصورة المبهر، ووظائفها الواسعة في الزمن المعاصر، كتكثيف حقيقي لنمط جديد من المعرفة الصورية، ينحو بشكل كبير لإعادة بناء الحقائق ضمن انتظام رمزي تمثيلي مُشاع بشده، وهو انتظام موجه بغرض تسويق الصور لذاتها، وخلق اكتفاء كامل بها لدى متلقيها. يُصبح كل شيء مُدركاً من خلال الصورة التي تمثله، ويصعب تمييز الواقع وتعبيراته إلا من خلال الرموز الصورية، ومن خلال تمثيلات الميديا التي تنهض بوظيفة تكثيف حقائقه، ومعالجتها ضمن الغرض الذي توظف فيه. مُكتفيه بذلك بذاتها، وبقدرتها الهائلة على التلاعب والإبهار، ومُحتكرة الواقع وموظفة له حسب موقع تعبيرها عنه. وبالتالي فهي تتوسط علاقتنا به، وعلاقتنا ببعض، وعلاقتنا بالأشياء، وعلاقتنا بالأفكار التي تُسوقها، وتستولي عليها، مشوشة عبر ذلك على أي تمييز قد نحاوله لمعرفة الأصل من المحاكاة، وخالقه اغتراب دائم عن الحقائق، مانحه من خلال ذلك للتمثيلات شرعية كونها ممتعه، وكافية، ومصنوعة باحتراف كافي للإقناع. تستقل الصورة إذاً عن الواقع الذي يُفترض أن تُحاكيه، فهي تحتوي وتشوش الواقع الذي تنقله، وتتوسط علاقتنا به ضمن تكثيفها المخاتل لدلالاته. ومما يُعزز اكتفاء الصورة بذاتها، وكونها كافيه لكونها موجودة فقط، دون اضطرار لإحالتها إلى أصل يُفصح، أو يؤكد، أو ينقض حقيقة ما تعرضه، تأتي عملية النسخ المتكررة لتعزز من عملية العرض لذاتها، باستقلالية عن كون الصورة - في أهم وظائفها - عملية محاكاة للأصل، ضمن الغرض والوظيفة التي تُنشأ الصورة لأجلها، سواء كان غرضاً فنياً، أو خبرياً، أو توثيقي.. الخ. مؤكده بذلك وبإصرار على كون الحقيقة هي، ولا توجد إلا عبرها، وعبر جمالية العرض والتكرار الذي لا ينتهي. وهو عرض وتكرار يعزز الاستلاب للصورة، واستهلاكها لكونها صورة فقط، وينكر على الذهن أي إمكانية لتفحص أصلها، ومقولاتها الضمنية.
الصورة إذاً تبني شقاً من الحقيقة، وتكرس هذا الشق عبر كافة وظائفها، إن هذا الشق هو الأكثر لمعاناً ومعالجه، وهو الشق الذي يجب تعميمه وخلق التفاف حول تلقيه، عبر كثافة العرض وتكراره في مواقيت مختلفة. وتحضر ضمن فكرة المعالجة المجتزأة للحقيقة، وتأكيد شق أو زاوية منها، الأغراض التي تنهض بها الصورة التلفزيونية.
في الصورة التلفزيونية، وفي جزء كبير أيضاً من الصورة الفوتوغرافية وأن كان بشكل أقل، يتم الاشتغال على شق من الحقيقة، وتكريس الاعتناء بأحد مناطقها، عبر الاشتغال على حجم وزوايا الصورة، وهذا يبدوا بشكل لافت في المتابعات الإخبارية، فحجم المساحة التي تغطيها الكاميرا، والزاوية التي ترصدها خلف المراسل التلفزيوني، يُشير تماماً إلى حجم الحقيقية التي تريد هذا الكاميرا نقلها، أو الزاوية التي تريد منها النظر إلى الحقيقة!!. الصورة مجموعة انحرافات عن الحقيقة، فهي لا تؤكد شيء بقدر ما تتلاعب بموقف وزاوية في الرؤية، ويصبح الإنشاء المرافق الذي يردده المراسل ذو وظيفة واحده، وهو مُعاضدة الصورة ضمن الحقيقية المختارة، ومنع أي التباس يمكن أن ينشأ حول مراميها. في المتابعات الإخبارية لمحطة (الجزيرة) للحرب اللبنانية الإسرائيلية الأخيرة، أنشأت (الجزيرة) تأكيداً صورياً عالي الإبهار على الحقيقة التي يقولها طرف واحد في الواقع اللبناني والعربي، فهي استبطنت الرغبة العامة في أدائها، وخلقت عبر إيحاء بصري متكرر القيمة الشائعة لإنجاز (حزب الله)، ُمعادية عبر استقطاعات صورية مُعالجه بذكاء موقع الطرف الأخر، اللبناني أو العربي، الذي يميل إلى الخفض من قيمة هذا الانجاز، أو ينفيه كلياً، أو يشير إلى تبعات خلفها. (العربية) لم تخرج عن الإيقاع العام الذي انتهجته (الجزيرة) في معالجتها البصرية للحدث، ولكنها أعارت عدسة الكاميرا قليلاً للمواقع الأخرى المتحفظة على شق الحقيقة المُكرس بشكل عام في الصورة المعروضة، لكن في كل الموقعين البصريين للمحطتين تم اللجوء للتأكيد الشفوي لما يُراد قوله من حقيقة عبر الصورة، لضمان عدم حصول أي انحراف في الحقيقة التي يجب أن يتم استهلاكها. وكانت المُعاضدة الشفهية لنوع الحقيقة في الصورة المعروضة، هو منطقة الاختلاف الأساسية في شكل الحقيقة التي تقولها الصورة المعروضة في المحطتين. في متابعات خبريه مختلفة، تُفصح عن تمايز أوضح عن آلية عمل عرضين صوريين مختلفين للواقع، وتأكيد كل عرض منهما على شق من الحقيقة وتأكيده، يُمكن الانتقال للشأن العراقي. محطة (الجزيرة) فيما يتعلق بالشأن العراقي تميل لجعل مساحة الصورة التي تلتقطها الكاميرا محدودة وضيقه. إنها صورة تتركز تماماً على مشهد الدخان أو العنف أو التعذيب، الصورة لا تتسع أبداً خارج هذا المشهد بحيث يمكن رؤية بشر يمرون بهدوء، وحياة تستمر بجوار العنف. وهي على عكس الصورة في محطة (العربية) حيث المساحة واسعة للغاية مما يموه التفاصيل، ويجعل المشاهد لا يجد بؤرة يتركز عليها الانفعال، وهي صورة دون تأكيدات واضحة على العنف في العراق، بقدر ما هي صورة تنجذب لتأكيد الايجابية السلمية في بناءه الديمقراطي، مع غض النظر عما يرافق هذا البناء من التباسات. ربما تكون مساحة الصورة في محطة (أبوظبي) أكثر اتزاناً حين تتعلق بذات الحدث، حيث يمكن أن نجد العديد من التعبيرات المتجاورة، ودون إفراط يمكن إيجاد عدد من الزوايا في الصورة. إن الصورة تتسع للموقعين بشكل نسبي، وبإطار منضبط ضمنياً لا يُفرط في تبني زاوية واحده، بقدر ما يتنقل بينهما بحيث يمنح خصوصية لصورة (أبوظبي).
الصورة منطقة خلق الدلالات وتسويقها، تتأكد هذه العملية في التقارير الخبرية المصورة، حيث يتركز التلقي بشكل كامل على الصورة، ويدفع الصوت من دلالتها حتى الحد الأقصى. إن التقرير المصور هو تكثيف لفكرة بناء الحقيقة الإعلامية اعتماداً على عدسة الكاميرا وعمليات مونتاجها.. إن الصور المتلاحقة التي لا تتيح للمتلقي عملية التفحص تقوم بتصديع تماسكه، وتبني جاذبيه هائلة تُمحور فيها انفعالات المتلقي حول مجموعة من مقولات الصورة، و حول نمط بنائها، وما تريد تركيز الإشارة إليه، وتكريسه. ويعمل الصوت على إضافة البلاغة الكفيلة برفع عتبة الانفعال، وإلغاء محاولة التركيز، مما يتيح أمكانيه أعلى لنشاط الصور، وبالتالي خلق انحرافات مؤكده عن مجموعة حقائق سابقه، باتجاه حقائق جديدة، تدل نحوها وتؤكد عليها الصورة الذكية، التي تصنعها العدسة التلفزيونية ومن يقفون خلف تحديد زواياها ومراميها.
حين يتعلق الأمر بالصورة يكون الكلام هو الجزء الميت من الحقيقة التي تقولها.......
maged