قضيتان

قضيتان - أبوبكر السقاف

هذا الكر والفر الذي يدور منذ أقصوصة «أترشح، ما اترشحش» والتي كانت تهدف في ما تهدف إلى شن حملة دعائية مبكرة لا يمكن مقارنتها بأية حملة أخرى، وانتهت بذلك المشهد الكوميدي في ميدان السبعين، ليبدأ الجانب المأساوي منها الذي ستتجلى بوائقه وويلاته منذ اليوم الأول للرئاسة الجديدة - القديمة التي تنتجها ديمقراطية الانتخابات الدورية التي استبدلت بالانتخابات الديمقراطية ومؤسساتها وقوانينها.
هذه الرئاسة ضرورية لصاحبها، لأسباب أهمها أنه لو غاب فإنه سيكون آخر رئيس زيدي لهذه البلاد، كما يروى عنه. وقوله بأنه تراجع عن وعده لأنه يريد حماية الجمهورية من عودة الملكية العدنانية - الزيدية، تأكيد لهذا الهدف «الاستراتيجي» الذي يخص كل القحطانيين. والهدف الذي يرتبط عضوياً -بالدلالة العامة والخاصة- بالهدف السابق هو التوريث، فاستمرار الجيش في أيد أمينة ضمان للاستقرار السياسي وحرز يقي البلاد شرور الانقلابات العسكرية، كما صرح مرة لصحافية في قناة ال(ام. بي. سي) وكأنه لم يأت على ظهر دبابة ولا يزال جالساً عليها، وهو يساوي بين ولي العهد والأسرة والعشيرة والقحطانيين كافة. إن ولي العهد هو ضامن هذا النهج «التاريخي»، كما أنه استمرار لدور القبيلة، التي يعتبرها الرئيس أصل التاريخ وهدفه، ويشاركه في هذا، رغم الاختلاف في أمور أخرى، ممثلو الإسلام السياسي الزيدي العدناني. وأية دولة سلطانية بدون الجنوب؟ ولذا فإن الهدف الثالث: الحفاظ على الوحدة التي مهرت بالدم وهزيمة الانفصاليين على اختلاف اتجاهاتهم. إنه ينقذ تاريخنا الحديث والمعاصر كله.
ليس من الصعوبة أن نلاحظ أن الجيش في مركز السياسة ومصدر السلطات، فالانقلابات العسكرية هي أمارة الاستيلاء (الماوردي) في صورتها العصرية، أي الدولة السلطانية الجديدة التي حرص فقهاء السنة قديماً على التمييز بينها والخلافة، فهي أمر واقع تكيفوا معه وقبلوا به ونادوا بتقديم الولاء والطاعة له حفظاً لدار الاسلام وحماية لأهل السنة والجماعة. وقد عدنا منذ أول انقلاب عسكري، في العام 1936 في العراق على يد ياسر صدقي، إلى الدولة السلطانية التي ألغت دساتير العشرينات، وتجارب التحديث والليبرالية في غير حقل ومجال. ومع هذا التحول الحاسم بدأت هزائمنا وخيباتنا حتى يوم الناس هذا. ألغت الانقلابات بدايات الدولة السياسية المدنية، أي: ألغت المجال السياسي عن بكرة أبيه.
يتذمر أصحاب اللقاء المشترك من لجوء خصمهم السياسي إلى الجيش. ومتى لجأ إلى غيره؟ فهذا عمل روتيني لم ينقطع منذ نحو تسعة وعشرين عاماً.. ويكفي أن نذكرهم بذلك العرض المسرحي قبيل الحرب في العام 1994 عندما تبادل الرئيس وشيخ التكفير المواقع، فذهب إلى الجند للقيام بممارسة نظرية فقهية، وأرسل صاحبه إلى الثكنات لنشر سعار الحرب ضدا على الكفار. إن الحياة السياسية مغموسة في ذهنية القوة والقمع. فالجيش والأمن يديران الانتخابات، ويشنان الحروب الأهلية، ويقومان بالقمع خطفاً وقتلاً وتعذيباً وسجناً. وعدم رؤية هذه الصورة البانورامية (الشاسعة) بلونها الدموي، هو أسوأ أنواع عمى الألوان الذي يجعل صاحبه لا يرى إلا الرمادي. والبحث عن الفروق بين النظام البرلماني و النظام الرئاسي مع بقاء هذه الشروط، أشد ضلالاً من البحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة.
إن بداية البدايات وأول التغيير وشرط الشروط، هو الشروع في السياسة المدنية، وهذه شرطها اللازم والضروري والكافي، هو حظر الجمع بين رئاسة الدولة وقيادة القوات المسلحة. ويزيد من ضراوة هذا الجمع عندنا، تزاوج الدولة والقبيلة، فيضيف هذا، إلى شرور الجمع، العجز الوظيفي الناتج عن سبب بنيوي وتكويني في القبيلة والقبيلي، عندما تتوحد القبيلة بالدولة في شروط تخلف تاريخي بعيد الغور، كان ومايزال سبباً في غياب نخبة -ذات ميراث ثقافي وسياسي واخلاقي- قادرة على إدارة البلاد بشروط العصر. إن السياسة المدنية تبدو شرطاً لنشأة مفهوم الدولة نفسه، وبدونه يتعذر أن تكون الدولة -القائمة على: منطق القوة المحصن في الداخل، وتوازن الوسط الدولي الذي يضمن استمرارها مع غياب السيادة- أمراً قابلاً للاستمرار، أي: أزمة وجود الوحدة والدولة معاً.
إن غياب هذه القضية الكبرى من برنامج المشترك، هو مقتلها، لأنها تدور في فلك النظام السلطاني وميكانيزمات الدولة السلطانية، التي يشكو منها آخر بيان (7/8/2006).
كان تركيز حركة الاحرار الدستورية، لا سيما صانع قضيتها الاول أحمد محمد نعمان، على الدستور واقترانه بالحرية، تركيزاً على هدف تاريخي، بصرف النظر عن نجاحهم وإخفاقهم. بينما يبدو تجنب التركيز على أساس بنيان الدولة السلطانية في السياسة اليمنية إخفاقاً في تشخيص عصري لهذا البنيان. ولعل من أسباب ذلك موافقة ضمنية عند بعض اطراف المشترك مع الدولة السلطانية لأسباب ليس هنا موضع الحديث فيها. كما أن من الواضح أن المشترك، لو تحدثنا بدقة، ليس معارضة، إنما معارضات، وهذا أيضاً يتطلب حديثاً مستقلاً؛ ولكن يكفينا أن نشير هنا إلى الحرص الذي أبداه غير طرف فيه، على استبعاد فكرة مقاطعة الانتخابات، بحجة أن المطلوب إنما هو مقاطعة ايجابية، بينما لم يجر الاعداد لها حتى بالحديث العابر عنها مما يدل على أن هذه الحجة التفاف على الفكرة. كما أن التأخر حتى يوم البيان الآخر( 7/8/2006) للتلويح بالرجوع إلى الهيئات الحزبية للبت في أمرها، لا يبدو مقنعاً بعد أن بلع المشترك طعم الاتفاق، الذي كان كسباً -بالنقاط والضربة القاضية- للسلطة. والضربة القاضية هي كون المشترك لم يستطع استخدام فكرة المقاطعة لتحقيق مكاسب أثناء الحوار، الذي أجل كل القضايا المحورية إلى ما بعد الانتخابات. وهذا يذكر باتفاقية أوسلو في كثير من النواحي. وقد جرى التفكير والعمل السياسيان وفقاً لمنطق التجارة بالقطعة وليس وفقاً لتجارة الجملة، فغابت قضية القضايا أو كما تقضي الدُرجة (الموضة) في الكلام السياسي الرسمي منذ سنوات الاستراتيجية، حتى أصبح جمع القمامة استراتيجية خطيرة تكاد توازي برنامجنا النووي، السلمي طبعاً.
عندما لا تتوافر أبسط شروط البداية في التحول الديمقراطي، تكون المقاطعة الايجابية عملاً ديمقراطياً بامتياز.
بقيت كلمة: قال لي صديق قديم: لا نريد استفزاز الجيش.
ومن يريد؟
إن المطلوب جعل الجيش هدفاً للتنوير السياسي. فإذا استثنينا قلة قليلة فيه، فالضباط الصغار وجميع الجنود، في حال زرية، فهم يشاركون أهلهم الفلاحين من أبناء القبائل والقرى والحرفيين والفقراء المدقعين، البؤس الذي تفرضه الدولة السلطانية جرعات قاتلة، كان آخر ثمارها أحداث 20-21 يوليو/ تموز2005 الدامية. وجاءت المظاهرات عفوية فالأحزاب عندنا لا تريد استفزاز السلطة.
يبدو أن السياسة في بلادنا بانتظار قوة حديثة جديدة تطرح الاسئلة- المحاور، وتكف بذلك عن الدوران حول المشاكل واشباهها ، وعندئذ لا تكون السياسة لعبة كراسي موسيقية.

* أتمنى أن أكون مخطئاً في هذا التقدير، وأن المشترك قادر على إنجاز فعل مقاطعة إيجابية كفيلة بتمزيق كل أوراق التوت التي تتلفع بها ديمقراطية الدولة السلطانية التي تملك كل شيء وتضع كل شيء.
جاء في بيان الأحزاب أنها «تعرب عن اسفها الشديد لممارسات الخرق للاتفاق منذ اليوم الأول للتوقيع عليه وبصورة تتعدى نصوص الاتفاق إلى الاخلال بدستورية وقانونية الاجراءات الانتخابية». ثم أحصى البيان أوجه الخرق والإخلال التي طالت الدستور والقوانين في ما يتعلق بإصلاح الإدارة الانتخابية، بما في ذلك حق التصويت للناخبين المقيمين في الخارج، وبالسجل الانتخابي، بما في ذلك رفض المقترحات المقدمة من هيئات دولية، وحيادية وسائل الاعلام، وحيادية القوى المسلحة والأمن.
وبعد إسهاب إنشائي لا يعني شيئاً أمام طوفان الخرق والإخلال والسيطرة، نقرأ: «... وإذا ما وصلت [هيئات اللقاء المشترك (أ. س)] إلى طريق مسدود بهذا الصدد فإنها ستجد نفسها مضطرة بالعودة [لعلها إلى (أ. س)] إلى الهيئات القيادية لأحزابها بموجب التفويض المخول لها بتحديد الموقف النهائي من هذه الانتخابات وفقاً للخيارات التي ستقررها وتدافع عنها الهيئات القيادية لأحزاب اللقاء المشترك».
ليس الطريق مسدوداً بعد، إذ هناك أمل. وتبدو المشاركة في الانتخابات بعد هذا النقد المطول، حباً في الانتخابات من أجل الانتخابات. أو أن هذا ما تمليه المصلحة العليا التي قال الاحمر الأب إنها سبب المشاركة في الانتخابات رغم أنها مزورة، وذلك رداً على سؤال إذاعة «مونت كارلو» قبيل انتخابات العام 1997، وكانت المصلحة العليا في ذلك الوقت إضفاء شرعية انتخابية على نتائج حرب العام 1994، فما المصلحة هذه المرة؟
القاهرة، 10/8/2006