اغتيال النصر

اغتيال النصر - عبدالباري طاهر

بعد أن اتضح جلياً عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق أهداف العدوان على لبنان بالسرعة المطلوبة، تحرك الاستعمار القديم (فرنسا صانعة مفاعل “ديمونه” النووي وشريكة إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر 56، وصانعة القرار 1559م) إلى جانب الاستعمار الجديد (أمريكا) للتقدم بقرار جديد لمجلس الأمن يحقق لإسرائيل ما عجز عن تحقيقه جيشها الهمجي الذي شرد أكثر من مليون، وقتل المئات غالبيتهم من الأطفال والشيوخ، ودمر المنازل والجسور والبنى التحتية وأحرق الأشجار، وأباد الحياة في الجنوب اللبناني ومناطق مختلفة.
جاء القرار الفرنسي الأمريكي؛ لإعطاء مهلة لإسرائيل لاستكمال حملتها الفاشية ضد لبنان، وليعطي لها حقاً ليس لها في البقاء في الأرض اللبنانية، بينما ألزم لبنان برد الأسيرين دون أن يتحدث عن الأسرى اللبنانيين، وسكت – أقماه الله – عن مليون مشرد، وعن جرائم حرب ومذابح ضد المدنيين.
جاء القرار منحازاً بالمطلق للعدوان الوحشي، فكان كمكافأة للاعتداء، وعقاب للبنان على صموده ومقاومة حزب الله ضد صنيعة الاستعمارين: القديم والجديد (إسرائيل).
مشروع القرار المقدم يتوخى أول ما يتوخى شق الصف اللبناني وإطالة أمد الحرب؛ بما يعزز مواقع جيش الاحتلال، ويجرد المقاومة من سلاحها وانتصارها. وحسناً فعلت الحكومة اللبنانية برفض المشروع. وكان موقف روسيا والصين دالاً، فقد وافقتا على المشروع شريطة قبول لبنان وإسرائيل به. وتعليق الموافقة على تراضي وقبول الدولتين أمرٌ مهم، ولا يمكن تمرير القرار بدون موافقة المتحاربين.
ولعل أغرب ما يحمله المشروع هو التغاضي عن الوجود الإسرائيلي على الأرض اللبنانية. مع ضمان عدم القتال ضد هذا الوجود الذي يمكن للمقاومة دحره في أية لحظة، فقد تمكن لبنان الأعزل والصغير من دحر العدوان الإسرائيلي منذ 82 وفي جولات متكررة آخرها في العام 2000.
والأغرب أن المشروع المنحاز بالمطلق للجلاد ضد الضحية يتحدث عن إيقاف الأعمال العدائية وكأنه يقارن بين حرب الدولة الإسرائيلية ومقاومة حزب الله. وإذا ما تعمقنا في قراءة المعنى فإن المقصود هو إدانة حزب الله “الإرهابي“، وتبرئة الدولة الإسرائيلية باعتبارها مدافعةً عن نفسها حسب بيان الدول الثمان الكبار، وما ترسخه قرارات وبيانات أمريكا وبعض الدول الأوروبية من حق لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، وهي اللازمة البليدة التي طالما كررها بوش.
لقد أكدت الحرب عجز الجيش الذي لا يقهر عن إلحاق الهزيمة بمقاومي حزب الله، وأثبتت قدرة الإنسان العربي على مواجهة الآلة الحربية الجهنمية، ورد العدوان بكفاءة ومقدرة فائقة.
فور اختطاف حزب الله للجنديين الإسرائيليين أدانت مصر والأردن والسعودية مغامرة حزب الله، وقد اعتبر ذلك بمثابة الغطاء للعدوان الإسرائيلي. و الأهم أن المواقف الدولية – المنحازة أصلاً- قد مالت بالمطلق لصالح تأييد إسرائيل وإعطائها الضوء الأخضر للإجهاز على مقاومة توقع الكثيرون، وفي المقدمة: أمريكا وإسرائيل، أنها لا تصمد أكثر من أسبوع.
أصيبت الأمم المتحدة بالخرس، وتمكنت أمريكا من إفشال “مؤتمر روما” في الدعوة لوقف إطلاق النار، وأفشل محور “السعودية، الأردن، مصر” الدعوة لانعقاد الجامعة العربية التي حتى لو انعقدت حينها لربما أدانت المقاومة؛ لأن المحور المعادي للمقاومة هو الأقوى. وكان إفشال القمة هروباً من الحرج، وإتاحة الفرصة أمام القوة الإسرائيلية لاستكمال” المهمة “. وربما كان الرهان الدولي على تسريع إسرائيل إنجاز “ المهمة “ أقل حماساً من المقامرة العربية التي رأت في اختطاف الجنديين مغامرة قد تجر المنطقة إلى ويلات لا قبل للنظام العربي بها. فهذه المغامرة تفتح عيون شعوب الأمة العربية على عجز دويلات الطوائف عن حماية السيادة والكرامة القومية بعد فشلها في بناء تنمية حقيقية، أو توفير حد أدنى من الحرية والديمقراطية والعدالة.
لقد كشفت الحرب والصمود الأسطوري للمقاومة مدى تبعية الحكم العربي لأمريكا، وارتهانه للتطبيع سراً وعلانيةً. و إذا كانت الحرب قد أسقطت “ورقة التوت” عن الحكم العربي إزاء الموقف من إسرائيل، فإن خشيته من أن يمتد الحريق إلى عقر داره هو الذي يدفعه لإدانة حزب الله. و محاولات حرف الصراع بعيداً عن مضاربه، وتحويل الصراع إلى صراع طوائفي: (سني شيعي). و اتهام إيران وسوريا بنفس ما تعمله إسرائيل وأمريكا.
ولكن صمود المقاومة قد فرض تبدلاً في المواقف كان من ثماره ابتعاد فرنسا عن أمريكا في تبني المشروع المقدم منها مع أمريكا، ومطالبة فرنسا، تحت ضغط الدولة اللبنانية ووفد الجامعة العربية الذي أيد المشروع اللبناني ذا النقاط السبع، مطالبتها بإجراء تعديلات على المشروع لصالح لبنان.
أمريكا المتحمسة للحرب واستمرارها رفضت أي تعديلات في المشروع؛ لتفسح السبيل أمام إسرائيل لتوسيع الحرب، وتمكين الجيش الإسرائيلي من استكمال تخريب ما تبقى من البنية التحتية اللبنانية، والوصول إلى الليطاني.
أعاقت أمريكا التصويت على القرار في انتظار وصول إسرائيل إلى الليطاني لتفرض الأمر الواقع على لبنان والعرب والمجتمع الدولي؛ فهناك تلازم متين وواضح بين توسيع دائرة الحرب والاتجاه المحموم نحو”نهر الليطاني” حتى قبل استكمال الاستيلاء على الشريط الحدودي، وبين بقاء المشروع مطروحاً على مجلس الأمن؛ فكلاهما: (المشروع و الحرب) إنما يهدفان إلى غاية واحدة هي اغتيال الانتصار الذي حققه صمود أبناء لبنان.
وإذا كان الرهان على مجلس الأمن قد خاب بعد أن أصبح بولتون السيد المطلق، فإن استمرار صمود المقاومة اللبناني، وتوافق الإرادات اللبنانية، وعدم انجرارها إلى الابتزاز والضغط الأمريكي والإسرائيلي، هو الضمان لإفشال الحرب الأكثر همجية ووحشية على مدى عدة قرون.
إن رفض أي تعديل في هذا المشروع الاستعماري، وإبقائه كسيف مصلت بانتظار أي انتصار إسرائيلي ولو جزئياً ومحدوداً، سيتوج بفرض مشروع جائر يعطي لإسرائيل ما عجز جيشها عن إنجازه.