من يوقف هذه الحرب؟

من يوقف هذه الحرب؟

* عبد الباري طاهر
خمس سنوات عجاف والحرب مستعرة في صعدة. أزهقت الحرب المجنونة مئات الانفس، وأحرقت المزارع وخربت البيوت على رؤوس ساكنيها وشردت المئات، ويتمت الاطفال، ومزقت أواصر الاخوة والقربى بين أبناء البلد الواحد. الحرب أم الجرائم كلها من رحمها المشؤوم تتوالد كل الجرائم الكبيرة.
حرب الانسان ضد أخيه الانسان جريمة في كل الملل والنحل، ولكنها ضد البلد والاهل جريمة لا تماثلها أي جريمة أخرى، خصوصاً إذا كان المتحاربون في بلد فقير كاليمن، تفتقر إلى الماء والكهرباء وقبل ذلك إلى الخبز الكفاف.
الحرب المستدامة منذ «ست سنوات» لا يستطيع الحكم أو المتمردون الحوثيون تبريرها. إنها حرب مجنونة وعبثية بكل المعاني. هل الحرب وحدها كفيلة بفرض هيبة الدولة في حين تغيب هذه الهيبة بعد بضعة كيلو مترات من دار الحكم، وتغيب في حالات كثيرة عن شوارع صنعاء وفي دوائر الحكم نفسها؟ هل يكون الشعار الاحمق واللا أخلاقي «الموت لامريكا الموت لليهود» سنداً ومتكأً لحرب سوف تدمر اليمن قبل أن تقتل امريكا أو تميت يهودياً واحداً؟!
ثم ما قصة اليهود. فاليهودية كانت ديانة في اليمن قبل المسيحية والاسلام، واستمر أبناؤها في اليمن حتى بدأ التواطؤ بين الصهيونية والرجعية والاستعمار لترحيلهم ليكونوا جزءاً من احتلال واستيطان وتشريد شعب فلسطين، وفي هذه الحرب الكريهة توافق الحكم والحوثيون على تشريد البقية الباقية منهم، وهم بضع مئات، بالتصارع عليهم. ولابد من التمييز بين العداوة مع الصهيونية ودولة اسرائيل كحركة ودولة عنصرية استعمارية تحتل أرضاً عربية وبين اليهود والديانة اليهودية.
حرب صعدة كجبل الجليد الخبيء منه هو الاكبر. وفيها غموض مريب وفاجع تتفجر كالبراكين والتسونامي ثم تهمد بغتة.
 خمس حروب تهلك ما تهلك ثم تنطفئ، ولكنها هذه المرة آخذة في التصاعد والانتشار.
لايدرك اليمنيون: الحكام والحوثيون أن حرب الاخوة الجياع لا تعني للمجتمع الدولي شيئاً، ولهم عظة واعتبار بإخوانهم في الصومال الذين يتحاربون ما يقرب من ربع قرن دون أن يهتم بهم حتى إخوانهم وجوارهم العربي والافريقي.
ما سر غموض هذه الحرب؟ وهل تعود لحرب استباقية كما اشير ذات حرب! ثم ما سر الاستباق! هل يعني نزع الراية أو الفتيل من شرعية آتية من سلالة أو مذهب أو منطقة أو قبلية كانت ذات يوم تعرف بالجناحين. في جانب أنها تحارب على شرعيات منقرضة وبائدة، ولا يكون الحرب معها الا بتجاوزها بشرعية الجديد والعصر، وليس بنفس أدواتها ونهجها وأسلحتها! هل للحرب المضببة علاقة ما بترتيبات جديدة وقادمة ولكن بمخاض دام كارثي وعسير؟! وهل أن البنية الضعيفة لليمن وللجسد اليمني المصاب بداء الهزال: بسبب فساد التعليم والفقر الكافر وتآكل الشرعية قد جعل العوامل الخارجية هي الاقوى؟! وأتاح للصراع الاقليمي أن يلعب دور البطولة في تغذية حرب متكررة؟
يعلن الطرفان القبول باتفاق الدوحة ثم يجري الانقضاض عليه. يجري التقدم بمبادرات فيها القواسم المشتركة اكثر من المختلف عليه ثم تتصاعد الحرب بأسوأ مما بدأت.
تعزل المنطقة عن وسائل الاعلام، ويكون الاعلام الرسمي وتسريبات الحوثيين هي المرجع الوحيد، ولكن جرائم الحرب تآبى إلا أن تعلن عن نفسها بأكثر من لسان.
جرائم حرب صعدة تتناسل وتتواصل دون أن تطرح أحزاب المشترك على نفسها ومحازبيها والشعب الاسئلة الحقيقية: ما علاقة الحرب بالازمة الحارقة والشاملة؟! وما علاقتها بعجز الحكم عن الاجابة على اسئلة الواقع المتفجرة في اكثر من منطقة؟ وهل للعودة إلى شرعيات ما قبل الدولة والثورة دخل في الاقتتال؟ ما علاقة الحرب بالصراع على الترتيبات القادمة إن كان ثمة ترتيبات؟! وهل هشاشة الشرعية وضعف المعارضة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني أثر في قابلية التدخل الاقليمي في هذا الصراع الذي اذا ما استمر فقد يجتذب اطرافاً دولية؟! وهل اسهمت اتفاقية المشترك والحكم على تأجيل الانتخابات في إفساح الطريق أمام الحرب السادسة؟
دخول اطراف اقليمية -إن لم تكن قد دخلت بالفعل، وانخراط القبائل والتيار السلفي الجهادي يدفع بالبلاد إلى حرب «الكل ضد الكل»، وتزري بمقولات ونماذج الجزأرة والافغنة والعرقنة والصوملة، وربما أزرينا بالهوتو والتوتسي في راوندا والكونغو.
تمتلك اليمن موارد طيبة في النفط والغاز والزراعة والاسماك لكن الاستبداد والفساد المستشري يدمر كل هذه الموارد المتواضعة، ويدفع باليمن إلى أسفل سلم الدول الاكثر فقراً وفساداً في العالم، ومن هنا تصبح الحرب «صناعة وطنية» يمكن أن تجتذب اليها آلاف العاطلين عن العمل وآلاف الجياع الذين سيهربون من موت جبان ومؤجل إلى موت عاجل ومغامر.
في الماضي غير البعيد كان مجتمع الجزيرة العربية وأجزاء من اليمن تعالج القحط والمجاعات باللجوء إلى الحرب للغنائم والفيد والاستيلاء على المناطق الزراعية، واجتياح المدن والقرى ونهبها، وربما سمى بعض مؤرخي هذه الحروب الشائنة فتوحات. ويقينا فان تبدلات عميقة قد حصلت في الواقع اليمني في حين بقيت عقلية البعض في التركيبة القبلية والاتجاهات المحافظة أقرب إلى الفيد. والحرب الجائرة تتطلع للعودة باليمن كلها إلى القرون الوسطى، ومجتمع «كن ذئباً والا أكلتك الذئاب»، وقيم «يا الله بالحرب والاحراب والا مصيبة من الرب». وليس هناك مصيبة أكثر ضرراً وخطورة من الحرب، وبالاخص حرب الاخوة الاعداء والجياع.
جعل الحرب الطريق الوحيد والوسيلة المثلى للحكم والمكوث فيه إلى ما شاء الله هو المساءل عن الكوارث التي نحن فيها.
حرب 94 الاجرامية قد توالد من رحمها عشرات الحروب التي لم يعلن عنها بقدر كاف، وهذه الحروب تتناسل حروباً، وحرب صعدة هي الجرح الاكثر نزيفاً، ولكن هناك الحراك في الجنوب وهو حتى اليوم احتجاج مدني تواجهه الدولة بالرصاص الحي، والاعتقال شبه اليومي بالعشرات والمئات، ويواجه بالاختطاف والاخفاء والتعذيب في الزنازن الانفرادية المكتظة «باللحم البشري». فهذه الحرب الاجرامية والمجنونة تغطي في جانب معين على جرائم في مناطق اخرى. أو هكذا يراد لها.
لا يمكن معالجة حرب صعدة بالمسكنات أو التهدئة أو التعليق، بالقدر الذي لا يمكن معالجتها بعيداً عن الحراك في الجنوب. كما لا يمكن المعالجة بالتجزئة أو الترحيل. الازمة عميقة الجذور، مترابطة ومتداخلة.
 استطاعت الازمة في الاطراف: الجنوب وشمال الشمال الاعلان عن نفسها -كل طرف بطريقته الخاصة وحسب بيئته، وبقي الوسط الذي قد يكون اكثر تضرراً لأنه حامل صخرة سيزيف الحكم ولعقود متطاولة، ولكن تململه لن يطول، وربما تكون احتجاجاته أقوى وأبلغ كحجم المعاناة وطولها.
بقاء الوحدة بل الكيان اليمني لن يكون الا بتحرك الاجزاء المعاقة، وإسقاط أقنعة الخوف السبعة، والنزول إلى الميادين لادانة الحرب في كل اليمن، ورفض استباحة اليمني دم أخيه.