لكل بلد فلسطينه

لكل بلد فلسطينه

*عبد الباري طاهر
لكل بلد عربي فلسطينه الخاص. فلم تعد القضية الفلسطينية «قضية العرب الأولى» أو القضية المركزية كما كنا نقول ونعتقد. بل أصبح لكل قطر عربي فلسطينه الخاص: للجزائر فلسطينه مع الحركات الجهادية الداخلية، ونزاعه مع المغرب، وللمغرب قضيته مع البوليساريو، ومصر، أكبر دولة عربية دعمت وتبنت القضية، لها مشاكلها الداخلية، وهم التوريث المؤرق، والعقيد القذافي مشغول بالوحدة الافريقية، والدعوة لانفصال جنوب السودان، والتوجس من الانتماء العربي، ولسوريا ولبنان قضاياها المؤرقة أيضاً.
ويجلس الاردن على خازوق الوطن البديل كتهديد القادة الصهاينة حتى الاصدقاء منهم للعرش، وتتفرد السودان واليمن بأن لهما أكثر من مأزق ساهم النظام في صنعه. فالسودان مهدد بانفصال الجنوب، وتمرد دار فور، وفي أية لحظة يمكن أن يتحرك الشرق، والنظام مصمم على احتكار الحكم حتى ولو تفتت السودان.
أما اليمن فحدث ولا حرج! فالتعليم المذهبي والطوائفي الذي أسسه الحكم منذ مطلع السبعينات قد بدأ يعطي ثماره المسمومة في تمرد صعدة، وفي انتشار السلفية الجهادية في أبين وشبوة ومعبر ومأرب والجوف، ومناطق أخرى.
شجعت الدولة، ولا تزال، التعليم المذهبي لأغراض سياسية، وأضعفت التعليم العام، ولا تزال لأغراض سياسية «آنية» تتحالف مع الاتجاهات السلفية الجهادية في مواجهة الخصوم السياسيين، وتمرد صعدة.
وقامت بانقلاب الحرب على الوحدة السلمية واستبدلتها بالوحدة بالحرب لتفتح أبواب الجحيم على شعبها ونفسها، والحرب لا تلد إلا حروباً توائم وأكثر شؤماً كتعبير الشاعر الجاهلي «زهير ابن ابي سلمى».
 في اليمن هناك حرب ضروس في صعدة، واحتجاجات مدنية في الجنوب تعمل الدولة بدأب لتحويله إلى مواجهات مسلحة، وتدفع بعناصرها في مواقع معينة لجر الحراك إلى حمل السلاح، وتستخدم العنف بإفراط ضد المطالبين بمياه الشرب في عدن ولحج، وتزج بالعشرات والمئات من المحتجين المسالمين إلى المعتقلات في عموم المحافظات الجنوبية.
وهناك خطر كامن يقترب من الدولة ويبتعد. وتحرص الدولة على استمرار الحبل السري، بضم السين، معه. لأن أرضيتها واحدة ومشتركة، وهو الاتجاه السلفي الجهادي، وهذا الاتجاه وإن كان حليفاً في حرب صعدة إلا أنه يهيئ نفسه للظهور على مسرح المواجهة الشاملة بعد أن أوجد مواقعه في اكثر من محافظة ومكان. توقيع الدولة الهدنة مع السلطان الجهادي الفضلي يمكنها، أو هو تعبير حقيقي عن الحرص على استمرار التلاقي الذي لم يكن سرياً يوماً مع التيارات الجهادية لمواجهة الاطراف الأخرى، سواء كانت محاربة أو مطالبة بحقوق مدنية وسلمية.
والواقع أن التحارب ذي الثلاث شعب: الدولة والحوثيين والجهاد، تترافد كلها، ويقوي بعضها بعضا. فالسلطة ذات الطبيعة القبائلية العسكرية لا تستطيع قيادة المجتمع بغير قانون القوة والغلبة، ولا تستطيع مواجهة طالبي إضاءة الكهرباء أو مياه الشرب أو إطلاق المعتقلين إلا بالرصاص الحي، والحوثيون لا يستطيعون التعبير عن مطلبهم أي مطالبهم مناطقهم وما أكثرها إلا بامتشاق السلاح كبنية قبلية أيضاً. أما الجهاديون والخطر الساحق الماحق فإن خطرهم آت من امتزاج المعتقد الديني بالبيئة القبلية، وهو ما يجعل منه مزدوجاً كيمياوياً أخطر ألف مرة من كيماوي الراحل صدام حسين.
البنية القبلية المرتدية لبوسا طائفية ومذهبية مسيسة تتقاتل بالقبيلة والجهودية باسم المقدس بعد أن أضعفت الحياة المدنية السياسية وقضت على مشاركة الجنوب الحقيقية، وهمشت المجتمع المدني: الأحزاب والصحافة والمنظمات النقابية والحقوقية والغرف التجارية، وجعلت السلاح وحده المتحدث الرسمي باسم السلطة ومعارضيها من نفس الأرضية: الجهاد والحوثيين.
إلغاء مشاركة الجنوب بالحرب، واغلاق الابواب امام تصحيح. الأوضاع الفاسدة ورفض التطور الديمقراطي، وجعل السلاح وحده الحكم، يفتح الأبواب لمعارضة تبيع وتشتري بنفس العملة التي تسوِّقها الدولة وتسكها، وإذا ما استمرت الحرب الكريهة -لا سمح الله- فستجر إليها أطرافاً أخرى سواء من المعارضة السياسية (المشترك)، أو التركيبة القبلية المتلمضة للفيد والغنائم، وسيجد اليمن نفسه في حرب الكل ضد الكل، وربما أن هناك قوى جديدة ومناطق مختلفة تنتظر نهاية المعركة في صعدة لتبدأ معركتها مع حكم لا يؤمن إلا بالقوة، ولا يحتكم إلا إليها.
في الحروب يستحيل تحديد النهاية. إنك تمتلك تحديد بداية الطلقة الاولى أما النهاية فلا أحد يستطيع تحديد نهايتها مهما امتلك من عدة وعتاد، والحروب الاهلية (حرب قابيل وهابيل اليمنيان) لا تنتهي، أو أنها ما أن تنتهي حتى تبدأ. فحرب 94 ضد الجنوب تولد عنها حرب صعدة، وحرب صعدة تعدنا وتتوعدنا بحروب «جهادية لا تبقي ولا تذر». حرب صعدة ليست معزولة عما سبقها، وحروب النصف الاخير في القرن الماضي وحرب 94. روافد مهمة لانبعاثها.
الحروب المستدامة في اليمن قد حولت «الدولة» إلى قبيلة في قبل أخرى تتحالف وتتحارب معها بالعقلية القبلية والمنطق القبلي.
تنظر القبيلة «السلطة» إلى اليمن كحق اكتسب بالقوة، ولا يمكن الاستمرار في حكمه إلا بشرعية الغلبة.
يرى المفكر الحداثي المهم الفين توفلر في كتابه «تحولات السلطة» أن السلطة تقتضي في صورتها الأكثر عرياً استخدام العنف والثروة والمعرفة بالمعنى الأوسع، وتوفلر يقيم نطرية السلطة على أساس مثلث: القوة، المال، المعرفة.
ويرى ومعه حق أن الضعف الاساسي في القوة هو ضعف ما فيها من مرونة ضعفاً مطلقاً. إنها لا تجدي إلا من حيث كونها عقاباً، وبالجملة فأنها سلطة من نوع رديء.
ما لا يدركه توفلر والماركسية أن الثروة معطى من معطيات الاستيلاء بالقوة على الحكم فإذا كانت الماركسية ترى «أن من يملك يحكم»، وتنظر الهيجلية إلى المعرفة كعامل أول في النقلة الحضارية الجديدة، ويقوم توفلر بالمزح الخلاف بينهما، فإن عري الحالة اليمنية آت من أن الطريق إلى الحكم هي القوة، والقوة وحدها. ويحتكر الحكم العنف لانه الوسيلة الوحيدة والمثلى للبقاء في الحكم واستمرار النهب.
طبيعة السلطة القبلية والعسكرية في الجوهر لا تسمح إلا بقيام معارضة سياسية شكلية يصعب، إن لم يكن مستحيلاً، أن تشكل تهديداً لبقائها، وهو ما يجعل المعارضة المسلحة هي الامكانية الوحيدة «للتنافس» بعد أن تغلق السلطة سبل العمل السياسي المعارض. فاليمن مهيئة لتفجر الحروب في أكثر من منطقة، ولها كلها أرث وبيل من مسلسلات الحروب والتمزق والتفكك.
ولا تقف المأساة عند هذا الحد، فالقيادة الفلسطينية نفسها لها فلسطينها الخاصة. ففتح وحماس يقتتلان حتى بالتحاور ليكون لكل منهما فلسطينه. فغزة هي فلسطين حماس، وما يعني حماس منها هو تأبيدها في الحكم.
أما فتح فإن أبو مازن نفسه هو فلسطين كل فلسطين، والتفاوض مع الاسرائيليين لا يعني غير التسليم بيهودية الدولة الاسرائيلية، وعدم عودة اللاجئين أو حتى مجرد الاعتراف لهم بالحق، وهناك فرق كبير بين الحق في العودة، والاعتراف بهذا الحق، ويتعامى جناح أبو مازن أن القدس الموحدة وبقاء الجدار العازل يعني ابتلاع معظم ما تبقى من الضفة الغربية، ويجعل الحديث عن حل الدولتين «حديث خرافة يا أم عمرو».