انزعجت!

انزعجت كثيراً لخبر تعيين داليا مجاهد عضوا في المجلس الاستشاري للأديان للرئيس الأمريكي 
باراك أوباما.
 وانزعجت أكثر من انزعاجي.
قلت لنفسي: لا تكوني متطرفة في علمانيتك، ولا تمتعضي من حجابها، نصف أعضاء عائلتك من النساء يرتدين الحجاب، والمسألة في النهاية قطعة قماش قد لا تحدد في الواقع طريقة تفكيرها.
لكني، كي أكون أمينة معكم، كنت منزعجة لسببين: الأول هو أن من تنشأ في بيئة غربية ثم تقرر ارتداء الحجاب عادة ما تكون متأثرة بفكر ديني أكثر محافظة مما هو سائد في بلدانها العربية. وإن كنت أقُر أن حالة التأسلم الشعبية السائدة حالياً في البلدان العربية، لم تعد تعطي مجالاً للتفريق بين تدّين المهجر الحاد ونظيره في البلد الأصلي.
السبب الثاني كان: حالة الفرح التي سادت وسائل الإعلام الممولة من المملكة العربية السعودية، إضافة إلى ترحيب منظمة إسلامية أمريكية معروفة بميولها الإخوانية الإسلامية، بتعيين داليا مجاهد في المجلس الاستشاري.
ولأنهم رحبوا كثيراً بتعيينها استغربت، ثم تخوفت.
رغم ذلك، أخذت مسافة من آرائي، وقلت: انتظري، الوقت وحده سيتكفل بتوضيح لونها ومواقفها.
ثم جاء خطاب الرئيس باراك أوباما الذي وجهه من جامعة القاهرة إلى العالم الإسلامي. أعجبني في مجمله؛ لولا عبارة قالها خاطفة، لفتت انتباهي مرة أخرى، فلسعني امتعاضي من جديد.
 أدرك أن أي خطاب لرئيس في دولة غربية، يمر بمراحل وقنوات عديدة قبل أن يصل إلى صورته الأخيرة. ولذا لا أريد أن أضخم من دور المجلس الاستشاري للأديان، أو عضوة فيه من بين عشرين.
لكني استغربت للعبارة! كان الرئيس أوباما يفتخر بالحريات المتوافرة للمسلمين في الولايات المتحدة، وإلى المدى الذي دفع بالحكومة الأمريكية، على حد قوله، إلى «الذهاب إلى المحاكم للدفاع عن حق المرأة والفتيات في ارتداء الحجاب، وعقاب من يحرمهم من هذا الحق».
هنا أدركت أن الرئيس أوباما يستمع إلى وجهة نظر أحادية في هذا الشأن، وأن وجهة النظر الأحادية هذه تقف مستفردة بالتعبير عما «يمثل المسلمين والمسلمات»، وهي وحدها التي تقول: «هذا ما يريده المسلمون والمسلمات». ولعلها في الواقع لا تقول إلا ما يمثل «رؤيتها هي للإسلام». رؤية متأسلمة.
أن تذهب الحكومة الأمريكية إلى المحاكم للدفاع عن حق المرأة في ارتداء الحجاب، شأن يمكن أن نختلف عليه. فهناك من يقول إن الحجاب جزء من الدين. والكثير من النساء ممن يرتدين الحجاب اليوم يفعلن ذلك لأنهن مقتنعات فعلاً أنه جزء من دينهن.
في المقابل، اليوم، ارتفع العديد من الأصوات من داخل البلدان العربية والإسلامية، التي تؤكد وتصر على أن الحجاب رمز سياسي جاء مع مد سياسي إسلامي، وفي الواقع لا علاقة له بالدين. هو الرمز الذي اتخذه حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين، كنمط مضاد لصورة المرأة التي تبناها كمال أتاتورك في تركيا العلمانية بعد أن أعلن إنهاء زمن الخلافة العثمانية. لكنه، وهو يفعل ذلك، لم يقل هذا رأيي، بل قال: هذا رأي الله. الله هو الذي قال، رغم أن حسن البنا فقط هو الذي قال. وهذا الشد والجذب بين الصوتين، يثير قدراً من التشوش والبلبلة، قد تبرر سبب اندفاع الحكومة الأمريكية الحماسي في الدفاع عن حقوق المحجبات من النساء.
لكن أن تذهب الحكومة الأمريكية إلى المحاكم للدفاع عن حق الفتيات في ارتداء الحجاب أمر لا يثير فقط الاستغراب، بل الاستهجان، لأنها بذلك لا تدافع عن «حق إنساني» بل تساهم في انتهاك حقوق هذه الصغيرات.
كم منا رأى طفلة في السادسة أو التاسعة ترتدي الحجاب؟ ومنذ متى بدأنا نرى هذه الصورة؟ صورة طفلة صغيرة تغطي نفسها كاملة! هل كنا نفكر يوما في تغطية طفلة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي؟ بالطبع لا. وإلى يومنا هذا في المجتمعات المدنية في البلدان العربية، لا نسمع عن طفلة في السادسة من العمر تضطر إلى ارتداء الحجاب.
 لأنها -أعزائي- طفلة، تحب أن تلعب وتجري وتقفز، لا أن نجرها بحبال من قماش يخنقها وأنفاسها في كل حركة.
فلنحكم عقولنا، إخوتي، من يدافع عن الحجاب، يطالب بتغطية الجانب الأنثوي في المرأة كي لا تثير الرجل، هذا المنكوب بغرائزه. ولو افترضنا فرضاً أننا نقبل بهذه الرؤية (الحيوانية) للإنسان، ذكرا كان أم أنثى، فإن من المنطقي القول إن الطفلة مستثناة من هذه المطلب؛ أليست طفلة؟ والطفلة ليست امرأة تصلح للنكاح. ورجوتكم أن تحتفظوا لأنفسكم بآراء من تعرفونهم من الفقهاء عن زواج الصغيرات. لأنها مخجلة، مخزية، ومهينة، لهم ولمن يؤمن بها.
مد الإسلام السياسي ومعه هوجة التأسلم الشعبي التي امتدت إلى بعض أوساط المهاجرين في البلدان الغربية دفع بهم إلى التطرف، إلى حد أصبح فيه الفارق بين طفلة وامرأة لا يعني الكثير بالنسبة لهم. طفلة أو امرأة سيان. هي أنثى والسلام، وكل ما هو أنثى خطر، يجب حجبه وتكفينه. ومع المد أصبحنا نرى البعض يصرخ في البلدان الغربية مدافعاً عن حق الطفلة في أن تتحجب! وأن تعامل كامرأة! وأن تنتهك طفولتها! والصارخ لا يرى غضاضة في منطقه!
لذلك، لم تكن عبارة الرئيس موفقة.
فالرجل كان يفاخر في الواقع بانتهاك حكومته لحقوق الأطفال في مجتمعه.
والأهم أن عبارته لم تأت من فراغ، بل عبرت عن رؤية من يقدم له النصح.
صممت رغم ذلك، على ألاَّ أدع رؤيتي أنا الأخرى تتحكم فيَّ.
قلت لنفسي: الإنسان يُعرف مما كتبه أخيراً. فبحثت عن الكتاب الذي اشتهرت من خلاله داليا مجاهد، وعنوانه «من يتحدث باسم الإسلام؟»، والذي نشر في نيويورك باللغة الإنجليزية عام 2007.
كتاب أجرت فيه الباحثة، وزميلها جون إسبوزيتو، مسحاً ميدانيا لعينة من السكان في العديد من البلدان في المعمورة، ضمن إطار مسح جالوب المعروف، وتزعم فيه وزميلها أن نتائجه تعبر عن آراء أكثر من مليار مسلم.
ما أجمل الخيال في صورته العلمية!
لا أعرف رأيكن أخواتي، لكني أعمل في مجال البحث العلمي، وأرى من المستحيل لأي مسح ميداني أن يعبر عن آراء أكثر من مليار شخص. من يزعم ذلك لا يبالغ فقط، بل يتجاوز حدود الإدراك المعرفي العلمي.
فتشت في الكتاب عن مفهوم «الشريعة»، أردت أن أرى، هل تدافع فيه الباحثة عن رؤية مدنية للقانون في البلدان الإسلامية؟ وهذه نقطة ليست فلسفية من جانبي، لكنها ضرورية لأي إصلاح فعلي: قانون مدني يستند إلى مفاهيم حقوق الإنسان، يتعامل مع المواطنين في الدولة على قدم المساواة، بغض النظر عن الدين (والمذهب)، الجنس، اللون، أو العرق.
وجدتها في الواقع تدافع عن الشريعة قائلة هي وزميلها إن هناك خلطاً في المفاهيم بين الشريعة والقانون الإسلامي، الشريعة على حد رأيهما هي: «بوصلة، تعبر عن المبادئ التي تتعدى الزمان ولا يمكن تغييرها»، والقانون الإسلامي (الفقه) الذي هو: «خريطة، يجب أن تتفق مع البوصلة».
وجدت من الغريب، بعد ذلك التمييز بين الشريعة والقانون الإسلامي، ألا يثار خلال الحديث عن حقوق المرأة موضوع قوانين الأحوال الشخصية العربية، التي طالب تقرير التنمية البشرية العربي لعام 2005 بتغييرها لضمان النهوض بالمرأة العربية من واقعها المتخلف.
تلك القوانين تعتمد في مضمونها على نصوص قرآنية، أي أنها تدخل صميماً في مفهوم الباحثة للشريعة/ البوصلة، وهي تؤسس للتمييز القائم ضد المرأة ضمن نطاق العائلة. ولأنها مجحفة، وفقاً لقراءتنا اليوم لمفاهيم حقوق الإنسان، فإنها بالتأكيد مبادئ مرتبطة بزمان نزولها، ويمكن تغييرها حتما بصورة تضمن حق المرأة في الكرامة والاستقلال. بكلمات أخرى: الشريعة يمكن تغييرها.
ووجدت من الأغرب أنها وزميلها عندما يتحدثان  عن «الإسلاموفوبيا» الأوروبي، يتغافلان عن وجود مجتمعات موازية متأسلمة في أوروبا، تصر على الفصل بين الجنسين، وتصر على فرض صورة نمطية للمرأة، وتنتهك مفاهيم المساواة التي وصلت إليها هذه المجتمعات بعد مئات السنين من الكفاح.
وجدت كل هذا غريباً.
فمن يتحدث عن واقع، يتوجب عليه أن ينظر إليه من أوجهه المتعددة، لا من وجه أحادي ضيق.
أما الأغرب فهو أن الرئيس الأمريكي أوباما في سعيه إلى فتح حوار مع العالم الإسلامي اختار صوتاً لا يعبر عن التعددية القائمة في الآراء والمواقف في البلدان الإسلامية. بل اختار صوتاً  يقول له: «هذا هو الإسلام، وهكذا هم المسلمون والمسلمات»، بدلا من أن يقول له: «هذه رؤيتي للإسلام، وهذه رؤيتي لما يراه المسلمون والمسلمات».
والفرق بين العبارتين شاسع.
تمنيت لو أن الرئيس الأمريكي اختار أكثر من شخصية في مجلس مستشاريه، لا داليا مجاهد فقط،  كي تمثل المليار مسلم، التي تزعم الباحثة في كتابها أنها تتحدث باسمهم.
أكثر من شخصية تعبر عن تعددية الآراء والمواقف المدنية والعلمانية القائمة في البلدان العربية والإسلامية، إضافة إلى شخصيات تعبر عن مواقف الأقليات الدينية والمذهبية فيها، وصوت هؤلاء كما تعرفون يبدو دائما غائباً. وعندما تجتمع في مجلس واحد ستكون قادرة على تقديم رؤية متوازنة للواقع الذي يسعى أوباما إلى فهمه. وأظن أن في الولايات المتحدة الكثير من العقول والشخصيات القادرة على القيام بهذه المهمة على أكمل وجه.
هل تفهمون سبب إنزعاجي، ثم امتعاضي؟
فالخوف، كل الخوف، أن الرئيس أوباما، لأنه لا يريد أن يكون كالرئيس بوش في مواقفه الأحادية، سيعمد هو الآخر إلى تبني رؤى أحادية مضادة.
وكلاهما يظل أحادياً، غير متعدد.
[email protected]