المواطنة المتدرجة

 بسلام مرت، أمس، ذكرى الحرب المشؤومة. وما كان ينبغي التركيز عليه في هذه المناسبة ليس المناكفة وتجييش الموظفين للاحتفال بالاقتتال الأهلي, بل التوقف عند ما خلفته تلك الحرب وما سبقها ولحقها من جروح عميقة في الجسد الوطني, والإقرار –وبقناعة– بأن الضرورة تقتضي إزالة كل ما ترتب عليها من نتائج على مختلف المستويات, والعمل على تعزيز فرص نجاح قرار وقف إطلاق النار في صعدة.
في بلد مثل اليمن، يعاني من أزمة اقتصادية خانقة ومن شح في الموارد حتى من المياه، يصبح من الموجبات الحرص على أن يكون الإنفاق مبنيا على قواعد شديدة الصرامة, وأن تكون سلطة القانون معيارا أساسا للخصومة والمواطنة, حتى يشعر الناس بأنهم شركاء في وطنهم، يتحملون مشكلاته مثلما ينعمون بخيراته أيا كانت.
لا يمتلك الرئيس علي عبدالله صالح ولا رئيس الوزراء إمكانية إقناع العامة بوجود أخطار سياسية أو اقتصادية على البلاد مادام الناس يشعرون بأن جماعة قليلة تستفيد من خيراتها لوحدها، فيما الغالبية العظمى يطحنها الفقر والبطالة. كما أن غياب العدالة وسلطة القانون قد جعل هؤلاء البسطاء  عرضة لبطش النافذين من عسكريين وشيوخ قبائل...
كما لا يمتلك أي إمكانية للقول بصواب موقفه الرافض لمعالجة آثار حرب 94م، رغم الدعوات المتواصلة التي أطلقها ويطلقها الحزب الاشتراكي  لطي هذا الملف, وتحذيراته المتواصلة من آثاره المدمرة على النسيج الوطني؛ إذ بدون ترميم الوضع الداخلي يصبح الحديث عن أدوار خارجية نوعا من الهروب, في نظر الكثيرين الذين ألفوا تحميل الأنظمة العربية والمؤامرات الخارجية مسؤولية  فشلهم في إقامة دول تنعم بالعدل والإنصاف.
حتى الحديث بغرابة عن التقاء المشاريع السياسية الحداثية مع القوى القبلية والدينية التي تناهض مشاريع الحداثة لا يلقى من يصغي إليه، لأن هذه القوى تتلقى الدعم المالي والسياسي من رأس النظام نفسه, فيما تحاصر المشاريع السياسية المدنية,  بالمواقع الوظيفية وفي  مصادر العيش , وتسد أمامها كل منافذ الدعم والتمويل...
الشكوى القائمة اليوم لم تعد تقتصر على أبناء المحافظات الجنوبية، الذين كانوا أكثر قدرة على مواجهة مشاريع التهجين والاستسلام؛ فهي محرك لأنين الناس في تهامة المنهوبة بالتوجيهات والحوالات، وهي راسخة الجذور في إب حيث يحتكر "النقايلـ" وبعض النافذين كل شيء، حتى إدارة أصغر المدارس, إلى درجة أصبح فيها كل فرد من أبناء المحافظة يبحث عن أصل في شمال الشمال ليعرف به نفسه، باعتبار ذلك مصدر اعتزاز يجنبه دونية الانتماء للمنطقة التي ولد وعاش فيها.
لن يستقيم أمر البلاد، ولن يتعزز الانتماء الوطني، مهما تحدث الإعلام، ومهما فعلت وزارة التربية أو وزارة الثقافة، إلا متى عاش الناس واقعا يؤكد أنهم متساوون, وأنهم لن يتعرضوا للتمييز بسبب لهجتهم  أو انتمائهم المناطقي, ومتى ما رُدت المظالم ولمس أبناء تهامة أنه لم يعد بوسع قائد عسكري من حاشد أن يبسط على عشرات الكيلومترات من أراضيهم لمجرد أنه أرسل العشرات من القبائل للقتال في صعدة ضد الحوثي, أو لأنه من منطقة قبلية ويمتلك مسلحين وسندا في السلطة يجعله قادرا على قتل من يعترضون طريقه بـ«فوطهم» و«شباشبهم» المقطعة.
malghobariMail