محاذير ومخاطر تتهدد اليمن

محاذير ومخاطر تتهدد اليمن - عبد الباري طاهر

كانت حرب 94 الكارثية في قاع تفكير القائمين بها ثأراً تمتد عروقه إلى الجهوية: شمال - جنوب، كثار لحربي 72 و79، وتحمل بصمات ثار لجرائم يناير 86 بين «الطغمة» و«الزمرة»، وقد تمتد العروق إلى هزائم الثورة المضادة من أبناء السلاطين وممن فقدوا مواقعهم في صراع الاخوة الاعداء، وتيار الاسلام السياسي.
الثارات القبلية لا تنسى، ولكنها وإن ارتدت أثواباً وطنية أو قومية أو حتى أممية فإن الجذر يبقى حاضراً.
مظاهر الثار الداحسي تجلى في الفيد والنهب وإقصاء وإلغاء الطرف الجنوبي من المنتصر الشمالي أو هكذا أراد رافعو شعارات الدم والاحقاد والضغائن أن يعمدوا المشهد الراعب، فهل يكون الرد «الجنوبي» موفقاً.
خلال نصف القرن الماضي، تاريخ بروز الحركة الوطنية الحديثة، كانت الاحداث اليمنية مترابطة وعميقة، فالكتيبة: كتيبة الشباب الاولى 38 في القاهرة، صاغها طلاب الازهر من الجنوب والشمال: محمد علي الجفري، والصافي، والبيحاني، والزبيري، والنعمان، وخطها قلم محمد علي الجفري.
في 1944 أعلن الاحرار حزبهم السياسي في مدينة عدن. وكان التنسيق قوياً بين رابطة أبناء الجنوب العربي وحزب الأحرار، خصوصاً في نشاطهما الخارجي وازاء العديد من القضايا.
أما الاحزاب اليسارية والقومية فقد نشأت موحدة: البعث، حركة القوميين العرب، والماركسيين. ولم تنتصر ثورة سبتمبر 62 إلا بجحافل الحرس الوطني الآتي معظمهم من الجنوب. وكانت قيادة ثورة الرابع عشر من اكتوبر 63 من اليمن الواحد حقاً.
الآتون من مضارب القبيلة والمتراجعون عن الخط الوطني اليوم هم من يرتدّون بالصراع إلى مستنقع الجهوية والطائفية وما قبل الوحدة.
الفاجع أن المتقاتلين بأسلحة القبيلة والطائفية والجهوية، وهم من آفاق سياسية مختلفة، تحكمهم مرجعية واحدة؛ مرجعية لا هم لها غير تفكيك عرى الوحدة اليمنية، وتمزيق اليمن. والاغرب أن يكون الحكم باسم الوحدة هو الطرف الاكثر تسابقاً لتنفيذ مآرب المرجعية، والاقل وفاء للوحدة.
كان الحراك الجنوبي احتجاجاً مدنياً مطلبياً وحقوقياً ضد حرب إجرامية لا تستطيع دعاوى الوطنية والوحدوية إخفاء طابعها الثاري: القبلي والجهوي. وكان رداً عملياً على همجية الحرب وإلغاء شراكة الجنوب.
كانت استجابة الاحزاب السياسية المعارضة بطيئة ومتذبذبة، ولعل صيغة وتركيبة المشترك قد فرضت هذا التلكؤ. فالاشتراكي، الذي تلقى ضربة حرب 94، مازالت جراحهُ تنز. و«الاصلاح» مثقل بجرائر الاشتراك في حرب «مقدسة» خرج منها مذموماً من قبل حليف حولهُ إلى كرت. أما البعث والناصريون فيندسون بين حلم أيديولوجية زمن مضى أو انقضى وبين واقع جاهم لا يرحم، ولا يقبل بوحدة حاشد وبكيل أو حتى حاشد وحدها، ولكنه يقتل باسم الوحدة.
أفلح الحراك في فضح طبيعة الحرب الانفصالية بامتياز، والتي لم تكن موجهة بالاساس إلا ضد طبيعة الوحدة السلمية الديمقراطية، وفرضت وحدة فخذ القبيلة القائم على الدم، والذي يلغي أي تنوع أو تعدد أو اختلاف في الرأي.
 والله يا من بيخرج من الصف بايذوق السم يشرب نقيعه.
 في حرب 94 انتصر الطرف الذي لا يؤمن بالوحدة، ولم تكن الوحدة برنامجاً سياسياً أو هدفاً وغاية، وكان قتاله ضدها هو الهدف الرئيسي والأول.
رفع الطرف المعادي حقاً وصدقاً للوحدة شعارها كمدخل لكسب الحرب وكبوابة للنهب والاقصاء والتفرد. وكانت قيادة الاشتراكي حينها قد أدارت ظهرها لماضي الحزب والجماهير، وراهنت على الشيطان. عدم اخلاص قيادة الحزب الاشتراكي لوثيقة العهد والاتفاق، وانسياقها وراء أوهام العودة إلى ما قبل ال22 من مايو 90، وعدم الرهان على خيار الوحدة، قد أوقعها في مستنقع الهزيمة بصورة مفجعة.
أما تحالف الحرب الواسع فقد أدرك للوهلة الاولى أن الاشتراكي يتخلى عن أهم سلاح من أسلحته.
نشأ الحراك مفككاً وموزعاً بين أكثر من قيادة، وبعض قياداته إما ينتمون إلى الحزب الاشتراكي وإما من القيادات العسكرية التي وجدت نفسها خارج الجيش وبدون مرتبات.
لا شك أن لإقصاء العشرات والمئات والآلاف من أبناء الجنوب من الجيش والأمن والوظيفة العامة، والنموذج الناهب للارض، وتحويل أرض الجنوب إلى ما يشبه الاستباحة، قد دفع بأبناء الجنوب إلى الالتحاق بالحراك.
غياب القيادة الموحدة يترك أثره البالغ والعميق. كما أن الخطر الداهم هو الانجرار إلى العنف والاستجابة غير الواعية للسلطة واستفزازها بالاتجاه للعنف وعسكرة الانتفاضة.
إن عسكرة الانتفاضة، والجنوح للعنف، والعداء اللامبرر ضد أبناء الشمال الهاربين  من الجوع والمعاناة والقهر، والمراهنة على العودة بالأوضاع إلى ما قبل اتحاد أبناء الجنوب العربي، هو ما يتهدد الاحتجاج السلمي.
تدرك السلطة أن الاحتجاج السلمي هو الخطر الداهم، وأن عسكرة الانتفاضة وجرها للقتال هو الميدان المناسب لسلطة لا تجيد غير العنف ولا تنتصر بغير الحرب.
إن العداوة بالمطلق بين الشعب الجائع والمحروم في الشمال والجنوب هو أقرب الطرق وأسهلها لتفجير الحرب الاهلية، وهي حرب لا يجد الحكم مخرجاً من أزمته الشاملة غير تسعيرها وركوب متونها. وإذا ما انفجرت هذه الحرب فإنها ستزري بالصومال والعراق وافغانستان، ولن نجد من يحاول مجرد محاولة إطفائها.
حرب الفقراء لا تهم أحداً، والذين يشجعون الاطراف كلها على الاقتتال ينتظرون أن تسقط التفاحة في أيديهم.
التصالح الجنوبي الجنوبي أمر حسن، ولكن أن يتخذ التصالح شكل مواجهة قادمة فهو المفجع. إن المواجهة القادمة لن تكون بين شمال وجنوب، كما يتوقع بعض قادة الحراك أو الحاكمون؛ المواجهة القادمة -لا سمح الله- ستكون حرب الكل، ضد الكل والمنتظرون كثيرون، ولن تكون نتائجها إلا خراب الكيان على رؤوس الجميع..  والاساطيل والبوارج في خليج عدن والقرن الافريقي لم تأت للاصطياف أو الفرجة.