أوهام السلطة الحاكمة في كسر القضية الجنوبية

أوهام السلطة الحاكمة في كسر القضية الجنوبية - ميفع عبدالرحمن

سيأتي يوم «يرونه بعيداً ونراه قريباً» على فخامة الرئيس، لن يعود يثق فيه حتى بأقرب أقربائه ناهيك عن المقربين (بفتح أو كسر الراء المشددة). لماذا؟ الجواب ببساطة شديدة: لاستغراق فخامته في لعبة خلط الأوراق. إنها لعبة قديمة ومتصلة عند فخامته، يبلغ الولع بها إلى الدرجة 40 من حُمّى الدماغ -إذا جاز التعبير- لدى الحكام الذين يحسبون الدنيا كلها -وأستغفر الله العظيم إن قلت: والآخرة كذلك- مجرد مرآة لهم، على الرغم من انكشاف تلك اللعبة الرئاسية المفضلة جداً، منذ وقت مبكر من بدء ممارسة فخامته لها. لكنها لم تكن -ولا تزال- غير مرئية للعين السياسية التقليدية، كما ليس لأمرها أن يخطر في البال السياسي التقليدي.
يتبين هذا بوضوح كافٍ من إشارات فخامة الرئيس في جمعه -المحسوب بدقة تكتيكية صارخة وفشل استراتيجي أعمى- نحو تسعة شماليين مقابل جنوبي واحد، أثناء الحوار الاخير بين المؤتمر الشعبي العام واللقاء المشترك، لتقطيع الوقت وتأجيل الانتخابات النيابية التي كانت مستحقة ربيع هذا العام والتي يؤكد أغلب الجنوبيين -وأنا واحد منهم- أنها لا تعنيهم في شيء حقاً، لا من قريب ولا من بعيد، طالما ستجريها سلطة تحالف أطراف الفساد -الحاكم فعلاً- والموصوم بعدائه الهمجي والدموي تجاه الجنوب وأهله وقضيته وحراكه السلمي والديمقراطي.
أما الاخوة الشماليون -من طرف المؤتمر- هم (مع حفظ الألقاب): د. عبدالكريم الإرياني المستشار السياسي لرئيس الجمهورية، ويحيى الراعي رئيس مجلس النواب، وسلطان البركاني رئيس كتلة المؤتمر. النيابية، وعبدالرحمن الاكوع أمين العاصمة الأمين العام المساعد للمؤتمر، ومن طرف المشترك نحو خمسة أمناء عموم، هم (مع حفظ الألقاب): عبدالوهاب الآنسي (اصلاح)، سلطان العتواني- (الوحدوي الناصري)، د. عبدالوهاب محمود (البعث غير العراقي)، محمد الرباعي (القوى الشعبية) وحسن زيد (الحق).
وأما الجنوبي الوحيد -كالأيتام في موائد اللئام- فهو أمين العام لحزب الاشتراكي اليمني، د. ياسين سعيد نعمان، الذي لن أبرح اتذكر إزاءه بكل العزاء والمؤازرة له والاعتزاز الكبير به، قول المتنبي:
وسوى الرُّوم خَلْف ظهرك رومُ
 فعلى أي جانبيك تميلُ.
 أولى تلك الإشارات السالبة، بل والخائبة -هنا- لأنها تشبه الغمز في الظلام، وبذلك الشكل (البارحي) من خلط الأوراق، كانت موجهة إلى حَمَلَة راية القضية الجنوبية من قوى النضال السلمي والديمقراطي في عموم الوطن اليمني. قصد فخامة الرئيس من هذه الإشارة إثبات أن في وسعة، ولو بالحيلة والمكر، ليس كسر القضية الجنوبية من عمودها الفقري فحسب، وإنما كسر إرادتها النضالية كذلك من خارج ساحتها الرئيسية.
تلي تلك الاشارة، أخريان رديفتان، تكشف إحداهما عن كون فخامة الرئيس لا يرى الانتخابات العامة غير شأن شمالي صرف، لا يبت فيه إلا الشماليون حتى من المعارضة، ولا علاقة للجنوبيين به إلا من باب الابتزاز السياسي للجنوب المفتوح على مصراعيه. أما الإشارة الأخرى، فتكشف حرص فخامة الرئيس على تكريس الانطباع السائد -شعبياً ونخبوياً- عن كبار أعوانه الجنوبيين، بما هم مجرد «بنادق زينة» يتباهى فخامته بهم على أنداده الشماليين أو يكايد خصومه الجنوبيين في أفضل الاحوال. ما لم، فهم لا يعدون أن يكونوا سوى «كسور عددية» عند فخامته لإتمام هذه الحسبة الجنوبية أو الخارجية أو تلك.
المؤكد أكثر أن فخامة الرئيس بهذا الشكل من الخلط لم يوفر ورقة واحدة من الأوراق، لا في الجانب الداخلي: مؤتمراً ومشتركاً، سلطة ومعارضة، نيابياً وحزبياً؛ كما في الجانب الخارجي: من الولايات المتحدة فالمملكة المتحدة والاتحاد الاوروبي إلى روسيا الاتحادية، يسبق ذلك الخلط، دخول جزيرة ميون والجمهورية الفرنسية على خطه بقليل.
فما الذي يريده فخامة الرئيس من كل هذا الذي لا يُسمى تماماً؟!
 إلى أبعد حد ممكن -في مثل وضعنا العام الراهن- من شأن فخامة الرئيس أن يخلط أوراق الكون كله أو تُخلط له أو تختلط عليه، فهذه مشكلة فخامته وحده لا شريك له، مادام يلعب ويسحب -معاً في وقت واحد- بمفرده وعلى المكشوف.
بالمقابل، من شأن الجنوب وحراكه السلمي والديمقراطي أن يقول الحقيقة كلها لأهله وللرأي العام -الداخلي والخارجي- وللاجيال اليمنية الجديدة، وللتاريخ اليمني عن الأوهام التي تكيلها لنفسها سلطة تحالف أطراف الفساد الحاكم تجاه الجنوب وأهله وقضيته. يدخل في صميم هذه الحقيقة ما ينتاب سلطة صنعاء الحاكمة من إحساس بالرعب حتى نخاع عظمها من كافة أبعاد مشروعية وعدالة وفاعلية القضية الجنوبية: النضالية، المطلبية، السياسية، الوطنية، السلمية، والديمقراطية.
 كذا. من شأن أحزاب اللقاء المشترك أن تنظر بعين البصيرة، لا البصر وحده، فيما لا بد ستتكشف عنه تلك الأوهام من مخاطر على لقائها اجمالاً وعليها حزباً حزباً، فتكف عن تذبذبها تجاه القضية الجنوبية. إذ ثمة إرادة لا سياسية ولا وطنية تكمن في تفاصيل تلك الإشارات الرئاسية الثلاث، فحواها قسر الحزب الاشتراكي اليمني على التراجع نحو مربع الشطرية، كي يغدو جنوبياً من حيث كان حاكماً على الرغم من معرفة الجميع ووعيه بأن الاشتراكي اليمني تأسس على الوطنية اليمنية. وقد أطلق شعاره الرئيس الشهير «لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية». في حين لم يكن المؤتمر الشعبي العام قد رأى النور بعد، وكان فخامة الرئيس لا يزال بعد في شهوره الثلاثة الأولى، رئاسة وسياسة.
فانتصار اللقاء المشترك بكافة أحزابه -قواعد وقيادات- للقضية الجنوبية، انتصار للوطن كله وللشعب اليمني ووحدته ومستقبله. ليس لأن حجم واثر المآسي التي أنتجت القضية (وياله من انتاج!) يفوق ويسبق -مثلاً- حجم وأثر المآسي التي خلفتها حروب السلطة الحاكمة ضد صعدة الباسلة وأهلها الأباة، بل لأن جميع مآسي اليمن واحدة ومشتركة من المهرة إلى صعدة ومصدرها واحد ومشترك في الجنوب والشمال. ثم إن قضية معاناة المواطنين في محافظة صعدة جزء لا يتجزأ من معاناة المواطنين في محافظات الشمال. بينما قضية الجنوب هي قضية الوطن كله، بكل المعايير، لأن ثمة في الشمال كما في الجنوب من يراهن اليوم وهو يرطن بلسان مختلط -أعجمي وأعرابي- على أن يكون الجنوب (أعرابياً) أو لا يكون! بمعنى القضاء قضاءً مبرماً إما على يمنية هذا الجنوب العزيز، وإما القضاء عليه هو ذاته وعلى قاعدة ما يجري فيه - منذ خمسة عشر عاماً- من تدمير منظم، منهجي، ومتسارع. فيا ليت أولئك الأعراب، لاسيما نقائلهم وأدواتهم في شمالنا اليمني، يقتنعون بعروبتهم هم أولاً. أم أن العروبة ما حبكت عندهم إلا الآن فقط وعلى جنوبنا اليمني لا غير؟! مع أن اليمن الطبيعية كلها هي جنوب العرب في أصل الجغرافيا والتاريخ، لو كانوا يقرؤون ويفهمون ما يقرأون.