نادرةعبدالقدوس تكتب عن إثنين من أعلام عدن

نادرةعبدالقدوس تكتب عن إثنين من أعلام عدن

من عجائب زماننا
حفل تكريمي فقير.. لشخصية غنية
 
في يناير مرت الذكرى السابعة والتسعون لميلاد الأديب الراحل الكبير محمد عبده غانم، إلا أن الاحتفاء بها جاء يوم السبت الماضي الموافق 21 فبراير، وأي احتفاء؟!
تجشم، مشكوراً، الأخ وزير الثقافة الدكتور محمد أبو بكر المفلحي عناء السفر من صنعاء إلى عدن، وكذلك فعل الأخ الفاضل الدكتور يحيى محمد الشعيبي المحافظ الأسبق لمحافظة عدن ووزير الخدمة المدنية والعمل الحالي، ليحضرا فعالية تكريم الأديب الراحل، وليت من نظم لها أحسن التفكير والتدبير والتنظيم. وتشهد قاعة ابن خلدون في كلية الآداب في جامعة عدن على ما نقول، إذ غاب عن المشاركة عدد كبير من المشتغلين في مجال الفكر والأدب والشعر والفن والإعلام والثقافة بشكل عام، كما لم يشارك في هذه المناسبة الكبيرة والهامة قيادات المجالس المحلية في مديريات محافظة عدن والمكتب التنفيذي في المحافظة، بل إن محافظ المحافظة بذاته لم يحضر، وهو الذي أصدر قراره بتسمية شارع النهضة في مدينة التواهي باسم المحتفى به! ثم علمنا أن سفراً مفاجئاً أو طارئاً حال دون حضوره الحفل، وعاض عنه وكيل المحافظة الأخ أحمد سالم ربيع علي.
أليس من العيب أن يتم تكريم قامة أدبية وفكرية وعلمية مثل د. محمد عبده غانم في مثل هذه الفعالية الفقيرة حتى من صورته التي كان يفترض أن تعلق في القاعة؟! وكأنها تحصيل حاصل والاكتفاء بنشر خبر في الإعلام المقروء والمرئي والسلام. من الواضح أنه لم يكن هناك تنسيق كاف بين مكتب الثقافة -كجهة منفذة لقرار وزارة الثقافة بالإعداد والترتيب لتنظيم فعالية التكريم- ومكاتب المؤسسات الحكومية ذات العلاقة كالتربية والتعليم تحديداً، باعتبار أن الفقيد كان أول وزير للمعارف في اليمن، والمكتب التنفيذي ومكتب محافظ المحافظة وقيادات وسائل الإعلام المختلفة، بدليل غياب جل ممثلي هذه الجهات وغياب جل ممثلي مؤسسات المجتمع المدني كاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ونقابة الفنانين وغيرها من المنظمات غير الحكومية في المحافظة، أو أن ممثلي هذه الجهات لم يلبوا دعوة مكتب الثقافة بعدن دون مراعاة أهمية الحدث وأهمية الشخصية الوطنية.
وقد حضر عدد بسيط،لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، من الشخصيات الفنية والأدبية والإعلامية والاجتماعية التي تناهى إلى مسامعها خبر تنظيم الفعالية، واهتمت بالمشاركة في الحضور احتراماً للراحل الذي أثرى بفكره وعلمه وأدبه وشعره وفنه ومواقفه الوطنية الحركة الأدبية والثقافية والتعليمية والأدبية، وجاحد من يتنكر لهذا العَلَم البارز، الذي عكس صورة الإنسان اليمني الوطني الكريم المعطاء في بقاع مختلفة من المعمورة، وكان السودان البلد العربي الأول الذي أحب حد التماهي بعد اليمن. وأنا شخصياَ تلقيت دعوة الحضور من نجله د. نزار, وإلا ما كنت علمت بالحدث.
وكما يقال “لا يموت من له ولد صالح”، فإن الدكتور محمد عبده غانم لم يمت، فروحه لا زالت ترفرف فوق رؤوسنا وتنفح فينا روح التحدي وتبث في أرواحنا حب العلم والعمل الصالح من خلال أبنائه الصالحين الذين تفخر اليمن بهم وتتمنى كل أسرة يمنية أن يكون لها أبناء أمثالهم، فبفضل تربية وتنشئة والدهم الفاضل على الأخلاق والقيم الحميدة، وعلى حب العلم والتعلم المستمر وتحدي الصعاب وحب الناس والتواضع والترفع عن الترهات، نشأ هؤلاء الأبناء وغدوا ثماراً يانعة، ناضجة، ناهلة من ينابيع العلم والمعرفة، واغترفت منها لتمنح للآخرين، دون شح أو بخل.
ومن المفارقات العجيبة أن يكون جميع أبناء المغفور له الرائد د. محمد عبده غانم هم أيضاً من الرواد المثقفين والمفكرين في البلاد كأبيهم، فها هو الدكتور قيس غانم، الابن الأكبر، أول يمني يرشح نفسه في الانتخابات الكندية البرلمانية، والدكتورة عزة غانم أول تربوية يمنية متخصصة في تربية وتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة، وأول امرأة يمنية تمنح لقب بروفيسور في علم النفس التربوي في مجال الإعاقة، وقد ألّفت عدداً من الكتب في هذا المجال، وهي أيضاً قبل ذلك أول امرأة يمنية جامعية تشغل منصب مديرة لمدرسة بنات في اليمن في منتصف ستينيات القرن المنصرم وذلك في المستعمرة عدن، وكانت أول امرأة عميدة لكلية التربية في جامعة صنعاء عام 1992، ومن المصادفات أن والدها كان أيضاً أول عميد لذات الكلية، كما أنه أول يمني في تاريخ اليمن ينال رتبة بروفيسور، وللدكتورة عزة الشرف في تأسيس مدرسة نموذجية في صنعاء (مدرسة أزال النموذجية). أما الدكتور شهاب غانم فهو واحد من المترجمين العالميين البارزين للشعر العربي المعاصر (من العربية إلى الإنجليزية والعكس)، والدكتور نزار غانم منشئ أول مركز طبي يقدم العلاج المجاني للمبدعين اليمنيين في حقل الثقافة والإعلام والأدب، وأخيراً الدكتور عصام غانم الحائز على شهادات جامعية في القانون والإدارة، ويعمل حالياً مستشاراً قانونياً لإحدى الشركات الخاصة في صنعاء.
وكما غرس الأب في نفوس أبنائه حب الوطن والعلم والمعرفة والأخلاق التي بها يرقى الوطن، غرس فيهم أيضاً حب الشعر ونظمه باللغة العربية الفصحى، وحب الموسيقى، لذا نجد أن نظم الشعر والشغف بالموسيقى هما القاسم المشترك بين أبناء الأديب الفذ الراحل محمد عبده غانم، وما يقدمه الدكتور نزار غانم، الطبيب والأستاذ الجامعي في كلية الطب بجامعة صنعاء، من عزف موسيقي راقٍ على آلة العود وصوت شجي وهو يتغنى بأعذب الألحان اليمنية القديمة والمعاصرة، وتحليلات علمية في مجال الموسيقى يستفيد منها الدارسون والمهتمون، إلا غيض من فيض في علم الموسيقى.
بعد كل ذلك، أليس من الواجب الاحتفاء بهذه الشخصية النادرة، الجليلة، التقية بالشكل اللائق بها؟ فالرجل لم يهتم بنفسه فقط، ولم يجعل اشتغاله واهتمامه بالعلم والأدب والشعر والموسيقى حائلاً دون الاهتمام بفلذات كبده، ولم يغدق عليهم بالمال فيعمي بصيرتهم ويغويهم عن العلم والاستزادة من مناهله، ولم يستغل نفوذه ومركزه الوظيفي ليبسط على حقوق الآخرين ويمنحها أهل بيته.
ويُحكى عن الأديب والمفكر والتربوي الراحل د. محمد عبده غانم أنه كان يجل زوجه أم قيس، رحمها الله وهي ابنة الرائد والمفكر المحامي والإعلامي محمد علي لقمان صاحب جريدة “فتاة الجزيرة” وكما كان يشاركها تربية الأبناء كان أيضاً يأخذ بآرائها دائماً في أمور شتى، منها أيضاً في الشعر، وكثيراً ما كان يغيّر في كلمات قصائده الرائعة التي ينظمها بعد الاستماع لتلك الآراء. وكان، رحمة الله عليه، تقياً نزيهاً، محباً للخير، وموجهاً تربوياً صالحاً؛ فكان يبسط يده للمعوزين، ويأخذ بأيدي الآخرين. وكانت مواقفه راقية ومستنيرة تجاه المرأة، ودعم نضالها في انتزاع حقها في التعليم والعمل، وقد تجلّى ذلك من خلال دفعه لزوجه، أم قيس، في مساهمتها في الأعمال الخيرية من خلال الجمعية العدنية للنساء التي تأسست عام 1957، وكانت إحدى العضوات الفاعلات في هذه الجمعية التي لعبت دوراً بارزاً في الحركة النسائية التنويرية في اليمن.
رحم الله الأديب والتربوي والمفكر د. محمد عبده غانم الذي لا زال حياً في قلوبنا وعقولنا ووجداننا، وفي أبنائه الرواد والمثقفين الأجلاء، متمنين ألا تنتهي قافلة التنوير الفكري في رحاب أسرتي غانم ولقمان وغيرهما من الأسر الكريمة التي، وعلى مدى عقود طويلة من الزمن، كانت مناراً للفكر والثقافة والتربية والتعليم في عدن، لتمتد إلى أرجاء اليمن كله، وأن يواصل الأحفاد المسير، فاليمن بحاجة إلى شعلة التنوير المضاءة دوماً.
 ملاحظة أخيرة: الفنانة الصاعدة هدى هاشم التي أطربتنا بأغنيتين رائعتين من كلمات الراحل غانم وألحان الفنانين خليل محمد خليل وسالم بامدهف، لطّفت جو الحفل التكريمي الفقير.

***

خليل الفنان والسجان.. في آن
«حرام عليك تقفل الشباك» أغنية تنتظر الإنصاف

كنت خارج محافظة عدن حين تلقيت النبأ ساعة وفاته من ابنتي التي هاتفتني حزينة، فهي من المعجبات بفنه بعد أن استمعت يوماً إلى أغانيه في شريط (كاسيت) كان أهداه لي، وقد أخذتها يوماً معي لتتعرف عليه شخصياً، بعد إلحاح منها، لزيارته في مسكنه الكائن في منطقة الصهاريج، حيث كنت أزوره بين الحين والآخر للاطمئنان والسؤال عليه، وأحياناً كنا نتبادل التواصل عبر الهاتف.
كانت زيارتي الأولى للفنان المبدع خليل محمد خليل في بيته عام 1998، بعد أخذي موعدا معه لإجراء لقاء صحفي معه خاص لمجلة “الجديدة “ التي كنت أكتب فيها. وكان ذلك اللقاء خاتمة الكتابة لهذه المجلة السعودية التي كانت تصدر في العاصمة البريطانية، لندن، ذلك أنها -كما يبدو- أفلست ولم يعد لها وجود. المهم، أنني كنت أشعر بسعادة غامرة وأنا ألتقي بهذه القامة الفنية الرائعة في الإبداع الفني الغنائي وفي التعامل الإنساني الجم وفي دماثة الأخلاق وقمة التواضع.
لم أكن أتوقع أن تكون حياة هذه القامة الكبيرة بهذه البساطة من العيش، ولا أن يكون هو شخصياً بهذه البساطة أيضاً في التعامل مع الآخرين. إذ كان يخيّل لي، وأنا في طريقي إلى بيته الوحيد الذي يمتلكه منذ عقود طويلة، والمكون من طابقين ودور أرضي، أنني سأقابل رجلاً متجهم الوجه، فظاً، غليظاً، الحسنة الوحيدة أنه مطرب. وكانت هذه الأفكار باغتتني لعلمي بتاريخه الوظيفي، حيث كان الرجل عسكرياً في نهاية العقد الرابع من القرن المنصرم؛ ومنح رتبة ملازم أول، وابتعثته سلطات الاحتلال لتلقي العديد من الدورات التدريبية، في نيروبي بكينيا، ولندن، رقي بعدها إلى رتبة نقيب وعين سجاناً في السجن المركزي بعدن، ثم ابتعث مرة أخرى إلى لندن للاطلاع على أحوال السجون فيها (ذكورا وإناثا) عاد بعدها بشهادة معمدة من وزير المستعمرات البريطاني حينها؛ فعين بمنصب كبير السجانين ثم رقي إلى رتبة رائد وصار أول عربي يتولى منصب مدير عام سجن في المستعمرة عدن.
لكن كل مخاوفي تبددت حال استقباله بنفسه لي، مرحباً بي بكل أدب وتواضع، وابتسامة عريضة تضفي على محياه الهادئ البهي، مفسحاً لي الطريق في الممر المؤدي إلى غرفة صغيرة فيها عدد من الكراسي القديمة الصنع (يبدو عليها ذلك من طرازها)، بيد أنها تحتفظ برونقها وبعبق تاريخ عدن الجميل. وكانت الصور المعلقة على الجدران خير شاهد على تاريخ الفنان الراحل المبدع خليل محمد خليل، وهي تحكي عن محطات تاريخية في حياة مؤسس ندوة الموسيقى العدنية واللون الغنائي العدني العذب كعذوبة مائها، الدافئ كدفء شمسها.
التقط جهاز التسجيل الصغير الذي كان يرافقني دائماً مع آلة التصوير (الفوتوغرافية) حديثه الشجي والشيق الطويل، تارة كان ردوداً على أسئلتي، وتارة كان إضافات ضافية منه على بعض ما ورد في حديثه للتأكيد. حملتني قصة حياته الطويلة ومحطاتها المفعمة بالذكريات الجميلة على أجنحة مخملية إلى زمن الإبداع الفني والأدبي والفكري والصحفي.. زمن التماهي مع جمال الطبيعة؛ فأبدع الشعراء أيما إبداع في التغني للصباح والزهور والطيور والمطر والسماء الصافية والبحر وساحل أبين وعشاق معبده، وصدحت أعذب الألحان من أوتار فناني ذلك العصر الذين ترنمت حناجرهم الذهبية بها.. زمن الحب العذري، النقي، والود الجميل، ودلع المحبين وخصامهم الجميل، وحلاوة العودة إلى عهودهم.. زمن عشق النضال من أجل الحرية والتحرر من عبودية الاستعمار الأجنبي، وشحذ همم أبناء الشعب ضد وجوده.. زمن.. لا أعتقده يتكرر.
فتح الراحل خليل صدره وتحدث كثيراً معي.. عن وصول والده التاجر الحاج محمد أحمد خليل من مصر إلى ميناء عدن الأول، صيرة، بعد أن رست سفينته التجارية على الشاطئ. ولكنه لم يكن يعلم أن من تقذفه أمواج البحر إلى مدينة عدن وتطأ قدماه أرضها يصاب بسحر جمالها، وتفتنه شطآنها، وتصهره شمسها المشعة، فتذوب روحه في روح المدينة التي لا يفكر بعدها في مدينة أخرى سواها. وعندما استقر به المقام في عدن تزوج الحاج محمد خليل من إحدى بنات المدينة لتنجب له عدداً من الأبناء والبنات، كان أحدهم فناننا المبدع خليل.
كان والد الفنان خليل محمد خليل محباً للغناء والطرب، إلى جانب اشتغاله بالسفر والتجارة، وكان دائماً يداعب أوتار عوده الذي يرافقه في رحلاته التجارية، ويغني من ألحانه وألحان غيره من فناني عصره. وقد ورث فناننا خليل عن أبيه شغفه وولعه بالغناء والطرب، رغم اشتغاله في السلك العسكري الذي تركه بسبب مصادمة بينه وبين أحد المسؤولين البريطانيين، الذي قام بتلفيق تهمة له بالتسبب بوفاة أحد السجناء، فزج بخليل السجن، لكن المحاكمة أظهرت براءته، فكانت تلك آخر صلة له بهذه الوظيفة، فقدم استقالته منها رافضا العودة إليها رغم الإلحاح البريطاني. وقد أخبرني، رحمة الله عليه، بأن البريطانيين لم يشعروا بالارتياح منه، حيث اكتشفوا أنه كان يساعد المسجونين الفقراء والمظلومين بتوصيل رسائل وطعام لهم دون أن تمر على المفتش.
وتفرغ الراحل بعدها للغناء، إلى جانب اشتغاله بالترجمة، ليستطيع أن يقتات منها ويعيل أسرته الكبيرة. وفي السبعينيات عمل في قسم المعاشات في السفارة البريطانية حتى عام 1990.
لم يكن الفنان خليل يخفي امتنانه لإذاعة بي بي سي (هيئة الإذاعة البريطانية) إذ أسهمت بشكل كبير في بروزه وبزوغ نجمه الفني، بتسجيل أغانيه أوائل الستينيات، وبعدها في إذاعة جيبوتي.
اتهم الفنان الكبير عام 1994 فناناً يهودياً بسرقة أغنيته “حرام عليك تقفل الشباك”، وقال إن الفنان اشتهر بسببها. كان ذلك من جملة أشياء يحتفظ بها في أرشيفه الخاص مع حفيده خليل. وقد أظهر مؤسس الأغنية العدنية حزناً شديداً، وطالب جهات الاختصاص في الدولة “بحماية الأغنية من السرقة والسطو”، إلا أن جهات الاختصاص في بلادنا مشغولة عن إبداعات ومبدعي اليمن في أمورها الخاصة، ولا يهمها نصب أو رفع أو ضرب أو قسمة حقوقهم، والله يكون في العون.
نم قرير العين أيها الفنان الإنسان العظيم خليل، وليبق فنك شاهداً على العصر الجميل الذي أسهمت في بنائه وإرساء قواعده، وإن حاول، ولا زال هناك من يحاول، سرقة أعمالك، إلا أن بصماتك محفورة في وجداننا وستبقى على مر الزمن، وهكذا بالنسبة لرفاق دربك المرشدي وبن سعد وأحمد قاسم والزيدي وعمر غابة ويوسف أحمد سالم والعطروش وطارش وغيرهم من الفنانين المبدعين الذين بذلوا كل جهودهم من أجل الفن الأصيل الذي يسمو بالروح ويرتقي بها.