الدكتور ياسين سعيد نعمان يتساءل: المشاركة السياسية للمرأة.. شراكة أم إقصاء؟!

الدكتور ياسين سعيد نعمان يتساءل: المشاركة السياسية للمرأة.. شراكة أم إقصاء؟!

يتسم الحديث عن المشاركة السياسية للمرأة في مجتمعاتنا العربية، ومنها اليمن، بقدر كبير من الغموض، ذلك أنه لا يستند على ثقافة واضحة تجعل من الحديث عن المشاركة السياسية جزءاً من بنية ثقافية سياسية لا تحتمل التأويل، ناهيك عن أن المشاركة السياسية للشعب عموماً مازالت في مراحلها الجنينية التي تقتصر فيها المشاركة السياسية للجميع، رجالاً ونساءً، على إنتاج وإعادة إنتاج الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة ونخبها الحاكمة.
وهذا النوع من المشاركة تنظمه قواعد تفرضها معادلات لا صلة لها بالحياة السياسية بالمفهوم المتعارف عليه، وهي في الأساس تصنع خارج دوائر المنظومة السياسية، وتحملها بعد ذلك إلى ميدان السياسة نخب ليس لها من أمر هذه القواعد سوى الدفاع عنها، أي أن كل ما تختص به هو تسويق هذه القواعد التي تلبي في الأساس مصالح قوى تبقى خارج المسرح السياسي وتدير اللعبة من متاريسها وأقبيتها التي لا بد أن تمر بها كل محصلة النشاط السياسي كمحطات فوز ومراقبة وقرار.
وهي، أي هذا النوع من المشاركة، لا تجسد منظومة المفاهيم السياسية التي تنتظم في إطار ما يعرف بالديمقراطية التعددية، ذلك أنها فعل طارئ تقتحم به علاقة الحاكم بالشعب لتهذب -نسبياً- الطابع التسلطي لهذه العلاقة، ولكنها لا تلبث بعد ذلك أن توظف على النحو الذي يبدو معه التسلط وكأنه مطلب شعبي. فالانتخابات، التي هي أحد مظاهر المشاركة، تصمم لتحقيق هذه الوظيفة.
وتبقى المشاركة بهذا المفهوم عملية مضللة ومخادعة. فهي لا تستطيع أن تتجاوز هذه الوظيفة التي تعيد إنتاج تسلط النخب الحاكمة فقط، وينتهي دور المشاركين هنا. ولا بأس في بعض الأحيان من السماح بهامش ضيق يجعل الحديث عن المشاركة مبرراً، على الأقل من الزاوية التي يعاد فيها صياغة الإكراه تحت عنوان الواجب الوطني.
إن المشاركة هنا أقل ما يقال عنها أنها خدعة، فلا مشاركة إلا لتحقيق غاية واحدة، وهي إضفاء الشرعية على نظام سياسي واجتماعي لا يتجدد بالمشاركة الشعبية، ولا يسمح بذلك، وهو يصمم الأدوات السياسية والقانونية والثقافية والمالية لتكريس صيغة المشاركة الشكلية على هذا النحو الذي يكرس المركزية المطلقة.
وهذا النوع من المشاركة لا يتجه بالحياة السياسية نحو الشراكة بمعناها المرادف للديمقراطية التعددية، حيث تتجلى الإرادة الشعبية في الصورة التي تكون هي مصدر السلطة ومالكها، قولاً وعملاً. والمشاركة التي لا تفضي إلى الشراكة السياسية هي ضرب من العبث، أي أنه لا بد أن يكون هذا هو هدفها النهائي، ولا بأس من التعامل مع الواقع ومعادلاته بحكمة وصبر، ولكن بثبات يتيح تكوين التراكمات السياسية والثقافية التي تهيئ الانتقال من المشاركة إلى الشراكة. وفي هذا السياق فقط يمكننا الحديث عن مشاركة سياسية فاعلة وذات قيمة لكل فئات المجتمع، بمن في ذلك المرأة.
ولعل ما يكسب الحديث على المشاركة السياسية للمرأة حيوية من نوع خاص هو ما تعرضت له المرأة من اضطهاد، سواءً في صورته المباشرة أم غير المباشرة، مما جعل قضية المشاركة السياسية تبدو وكأنها إعلان ثورة على الواقع الاجتماعي المتسبب في هذا الاضطهاد أكثر منه على منظومة الحياة السياسية. فالحقيقة هي أن المنظومة السياسية بالنسبة للمرأة لا تنتج أي شروط مشاركة بمعزل عن الواقع الاجتماعي.
أي أن هذه المنظومة السياسية ليست مستقلة في إنتاج الشروط الخاصة بمشاركة المرأة، حيث تتدخل منظومة القيم الاجتماعية والثقافية السائدة في أي مجتمع، لتقرر طبيعة هذه المشاركة ومستواها، وبالتالي فإن بحث مشاركة المرأة سياسياً لا يمكن النظر إليه باعتباره قضية سياسية بحتة، كما لا يمكن التعاطي معه بالاستناد إلى منظومة العوامل السياسية فقط، وإنما يجب بصورة مزامنة إعادة بناء وتصميم الإطار الاجتماعي والثقافي، وأخذ هذا الإطار بعين الاعتبار، والانطلاق منه، سواء عند عملية التقييم أم أخذ القرار.
ولكي لا تبدو قضية المشاركة السياسية للمرأة وكأنها تبحث بنزعة إرادوية وتحكمية، أو أحياناً انتهازية، فإنه لا بد من النظر إلى هذه المسألة من الزاوية التي تمكننا من اعتبارها جزءاً من مشكلة التطور السياسي والاجتماعي، وبالتالي سيكون من المفيد التعامل معها كجزء من البنية السياسية والاجتماعية والثقافية، طالما أن نضالنا لتغيير هذا الواقع هو نضال سلمي ديمقراطي، وهذا الطريق هو الطريق الآمن الذي من شأنه أن يؤمن الشروط الضرورية للوصول إلى الاهداف السياسية والاجتماعية لعملية التغيير. وفي هذا السياق لا بد أن يكون للمرأة دور سياسي في هذه العملية النضالية، سواءً من خلال الاحزاب أم منظمات المجتمع المدني أم منظماتها الخاصة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن التجربة التاريخية تختزن رصيداً ضخماً للمرأة اليمنية في النضال السياسي والاجتماعي في هذا الصدد، حيث توزع نضالها على جبهة واسعة من الأهداف الاجتماعية والسياسية استطاعت معها أن تجعل من قضية حقوق المرأة السياسية والاجتماعية حاضرة في الوعي الاجتماعي وحاضرة في الخطاب السياسي والإعلامي لكل القوى.
ولا شك أن هذا القدر من التراكم قد فتح آفاقاً طيبة لوضع قضية المشاركة السياسية للمرأة على طاولة البحث، في سياق طبيعي ومتوافق مع الضرورة الموضوعية لبحث المهمات الكفاحية للقوى الحية في المجتمع بشأن تحقيق التطور السياسي والاجتماعي الذي من شأنه استيعاب تحويل المشاركة السياسية للشعب إلى شراكة سياسية، وفي إطارها تتحقق المشاركة السياسية للمرأة كعلامة بارزة على مستوى النهوض العام، أي مما يجعل هذه المشاركة تعبيراً عن مستوى هذا النهوض وعمقه.
وتضطلع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني بدور أساسي في هذا الجانب من حيث تمكين المرأة من المشاركة بفاعلية في هذه المهمة النضالية، التي من شأنها أن تهيئ الشروط الضرورية للنهوض العام، وتعد هذه المرحلة بمثابة المقدمة اللازمة للانخراط في العمل السياسي ضمن الفعاليات الشعبية والمجتمعية، وفيها يتم إعداد القيادات النسائية على كافة المستويات، حيث تشكل هذه الحلقة في هذه العملية الموضوعية الطويلة العنصر الحاسم في تكوين الحامل الاجتماعي لقضية المرأة عموماً. وستؤسس هذه الخطوة -فيما لو تحققت على هذا النحو- القاعدة الضرورية للإنطلاق نحو إعادة إنتاج قضية المرأة وحقوقها في إطار ثقافي واجتماعي وسياسي أوسع، ولا بد أن تحتل وفقاً لذلك مساحتها الكافية في الوعي الاجتماعي.
ولا بد أن يعكس الوعي الاجتماعي في هذه الحالة مقدار التغير الجوهري في البنيان الثقافي والاجتماعي والسياسي. وسيكون الاعتراف بحق المرأة في التعليم والعمل بنفس المستوى الذي يحصل عليه الرجل خطوة أساسية على طريق تحرير المرأة من كوابح المشاركة بفاعلية في الحياة العامة.
إن أي تميز يظهر هنا، وفي ميدان العمل على وجه الخصوص، سيظل معياراً لمستوى نمو الوعي الاجتماعي بقضية المرأة، يصعب معه الانتقال بهذا الوعي إلى مصاف أعلى دون أن يحسم على وجه كامل. ولا بد من النظر هنا إلى أن حق العمل، في صيغته التي يفهم منها أن المجتمع قد استوعب معنى التكافؤ في تحمل مسؤولية الحياة بين شركاء الحياة، جدير بتوفير شروط تنظيم الأسرة على أسس متساوية في الحقوق والواجبات. ولا أقول إن هذه شروط للمشاركة السياسية للمرأة، ولكنها في الظروف التي تمر بها مجتمعاتنا، ومنها اليمن، تعد مؤشراً هاماً للمدى الذي يمكن أن تكون فيه مشاركة المرأة سياسياً جزءاً من بنية ثقافية واجتماعية وسياسية ملائمة وغير قابلة للانقضاض على هذا الحق تحت أي دعوى أو مبرر.
إن ما قصدته فيما سبق هو أنه لا يجب إهمال هذه العناصر مجتمعة في إنتاج شروط المشاركة السياسية. إن الاهتمام بالمشاركة السياسية في ظروف القهر الاجتماعي والثقافي ليس فيه ما يعيب، سوى أن إهمال الإطار الثقافي والاجتماعي لهذه المشاركة يجعل المسألة تبدو وكأنها انتقائية على نحو مخلٍّ بأهدافها الحقيقية والمتمثلة في بناء كيان اجتماعي متماسك قوامه كل أبناء الوطن، نساءً ورجالاً؛ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».
إن جوانب هذه العملية لا بد أن تسير على نحو متلازم. وهنا لا بد من التفريق بين الحق وممارسة هذا الحق. فالمشاركة السياسية للمرأة هي حق طبيعي لا جدال حوله. وما ذهبنا إليه أعلاه إنما نقصد به ممارسة هذا الحق في ظروف البيئة الثقافية والاجتماعية التي تواصل إنتاج عوامل التصادم مع ممارسة هذا الحق.
ولتحاشي هذه التصادمات بالشكل الذي يعوق ممارسة هذا الحق، فإنه لا بد من معالجة قضية المشاركة السياسية للمرأة في سياقاتها الموضوعية المتداخلة مع النهوض والتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي العام في المجتمع. ولا بد هنا من مواصلة إنتاج القوانين والتشريعات والأنظمة التي تدعم نضال المرأة وتساند حقوقها في جميع الميادين، لتشكل المرجعية التي تستقطب القوى الاجتماعية والسياسية التي سيعول عليها في صياغة الموقف الثابت أولاً من قضية كون المرأة شريكاً غير منقوص الحقوق، وهي عملية نضالية مركبة يتوقف إنجازها على طبيعة النظام السياي الحاكم؛ فإما أن يسرع بهذه العملية وإما أن يعوقها وإما أن يشوهها، والأنظمة التي تلجأ إلى تشويه هذه العملية هي أخطر من تلك التي تقاومها وتقف ضدها؛ ذلك أن وسائل الاحتيال التي تمارسها أنظمة التشويه تلك تضعف الروح الكفاحية عند النساء، وتبتزها بمساومات وتسويات صغيرة، دون أن تمس جوهر المشكلة بإصلاحات جذرية كما هو دأبها مع بقية شؤون المجتمع. وحالنا في اليمن شبيه تماماً بهذا النموذج، حيث توظف المكنة الإعلامية للنظام هذه القضية في سياق المناورات السياسية التي شوهت الخيار الديمقراطي وكل ما ارتبط به من عمليات وقضايا أخرى كقضية المشاركة السياسية للمرأة.
نحن اليوم في أمس الحاجة إلى بناء الإطار التشريعي والسياسي الملائم لجعل مشاركة المرأة في الحياة السياسية معياراً حقيقياً لموقف القوى السياسية والاجتماعية من هذه المسألة، وكان لا بد من الانتقال بها من الموقف الانتقائي المراوغ إلى الموقف النزيه الذي يجسد تطوراً في التفكير وفي الثقافة، باعتبار أن ذلك هو الكفيل بوضع هذه القضية في المكان الملائم لها بين منظومة العناصر المحددة لعملية التطور.
والسؤال الذي يثار اليوم حول مستوى مشاركة المرأة في الحياة السياسية يجب أن يقابله بحث وضعها في الحياة العامة، لنستخلص من ذلك تأثير أزمة النظام السياسي والاجتماعي على وضع المرأة، من حيث عجزه أو عدم رغبته في اتباع استراتيجية متكاملة وواضحة في تبني قضية المرأة والاعتراف بحقوقها ووضعها في المكان الملائم لها في المجتمع.
إن السياسات الانتقائية التي يمارسها النظام تجاه المرأة قد أضرت بقضيتها، حيث دفع إلى السطح بنماذج من المظاهر الدعائية التي يتخفى وراءها موقف مناهض لحقوق المرأة وحريتها وتطورها. وللأسف استطاع أن يجند البعض لترويج هذه السياسات في عمل أقل ما يوصف به أنه  تكريس لحالة التشوه العام واستكمال لحلقاته في كل جوانب المجتمع. ولا عجب بعد ذلك أن نرى بعض النساء يستسلمن للخديعة محكومات بدوافع آنية وأنانية في الوقت نفسه، ويتكفلن مسؤولية الدفاع عن هذه السياسات، وينخرطن في تنفيذها، غير آبهات للنتائج السلبية التي ترتبها هذه الخفة على قضية المرأة وحقوقها السياسية والاجتماعية.
ولا بد من إدراك أن نيل المرأة حقوقها سيتوقف على قدرتها على أن تضع نفسها في المكان الصحيح وفي المعادلة الإنسانية، أولاً باعتبارها نصف المجتمع «ولهن مثل الذي عليهن»، «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، وهذا لن يتأتى إلا بتنظيم نفسها على النحو الذي يجعل من عامة حقوقها هدفاً مشتركاً لنضالها، بغض النظر عن تبايناتها السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية. بهذا فقط تستطيع أن توجد المعادلات المطلوبة في مسارات نضالها من أجل الانتصار لهذه الحقوق، وأن تقف أمام المشاريع المصادرة لحقوقها، أو تلك الانتهازية التي تعمل على تشويهها، وأن تصد كل من يقتات على ذمة حقوقها المنهوبة، سواءً كان من النساء  أم من الرجال.
ولا يمكن للمرأة أن تنال حقوقها وتنتصر لقضيتها بمعزل عن النضال الوطني العام من أجل إصلاح المجتمع برمته. وعليها أن ألاَّ تنخدع بإمكانية المشاركة السياسية الحقيقية في وضع تتراجع فيه الحريات العامة ويتقلص فيه الهامش الديمقراطي وتنخر البلاد سياسات إقصائية وتفكيكية. وفيما لو اعتقدت بأن حريتها وحقوقها ومشاركتها السياسية موضوعات مستقلة عن الوضع العام وما يتحكم به من أزمة شاملة، فإنها تضع قضيتها رهن المناورات الانتهازية، بما يعني أن الانخرط في لعبة الاستقطاب السياسية الهادفة إلى تمرير انتخابات شكلية تضر بمستقبل الديمقراطية التعددية سيكون له أعمق الآثار السلبية على قضية المرأة وحقوقها. ولذا فإن عليها أولاً أن تحرر قضيتها من الصفقات المشبوهة التي يمارسها البعض ممن توسلت بهن السلطة لتمرير مشاريعها السياسية غير عابئات بما ستفضي إليه هذه الصفقات من نتائج خطيرة ليس أكثرها سوءاً تمزيق نضال المرأة وجره إلى الساحة التي يصبح فيها جزءاً من سياسة أشمل لإغراق البلاد في التخلف لصالح قوى الفساد والهيمنة.
والله غالب على أمره.