المغلس.. سيد الابتسامة

المغلس.. سيد الابتسامة

*منصور هائل
أغبط بعض الزملاء الذين لا يتخلفون عن واجب زيارة المرضى، والمشاركة في تشييع الموتى، وفي طقوس العزاء والرثاء والتأبين.
ويحز في نفسي أني لا أستطيع مجاراتهم ولم أعد أحتمل قرفي من نفسي وأنا ألهج بعبارات التأسي والأسف على تقصيري.
ويسحقني الاحساس بالبله والخبل والضآلة إزاء بعض أولئك الذين يستهلون صباحاتهم بتصفح برنامجهم اليومي الذي يتضمن مواصلة العمل على إبرام صفقة غير معلنة مع المستحيل، ويثابرون في إنجاز بعضها، ولا ينكبح اندفاعهم إلا في حال سماعهم لرنة الهاتف ومكالمة تخطرهم بمرض احدهم أو وفاة أخر أو...
 وهنالك ما لا يصدق من وقائع واشياء.
ومن يصدق -مثلاً- أن أحد الاصدقاء الاجلاء يعلق برنامجه اليومي إذا ما وقع نظره على جماعة يحملون جنازة إلى مثواها، ويندفع إلى المشاركة باستغراق صوفي في تشييع جثمان شخص لم تجمعه به قرابة أو صداقة أو معرفة، وذلك هو حال الصديق الحبيب عبدالعزيز الزارقة، فهو يشارك في الطقس بوقار ومهابة واحتراف، حتى يبدو أنه أقرب إلى المرحوم من أقربائه النائحين المكلومين.
وفي مساء أمس الثلاثاء خطر على البال باستحواذ واستبداد، لأني شاركت في أربعينية تأبينية لم يحضرها، بالصدفة أو بالمستحيل، ووحده الله يعلم كيف تخلف أكثر الناس تحالفاً مع المستحيل عن الحضور.
وبينما كنت في غاية الكآبة والحزن بعد سماعي لوقائع الرحيل المأساوي للصديق المهندس عبدالرحمن المغلس، برق د. (الزارقة) في الذهن، وتساءلت: كيف يحتمل كل تلك الحكايا الموجعة والثقيلة.. سرديات الاشباح والكوابيس وروائح وأنفاس العنابر وغرف الانعاش والمقابر...؟
وبرق في ذهني أنه وأمثاله هم الذين يحفظون لنا فسحة الامل بالعيش الذي تحاصره الكروب والخطوب.
واستعدت صور من حضروا أربعينية الفقيد العزيز المهندس عبدالرحمن المغلس من الاهل والاصدقاء والزملاء، من قدس والاعبوس وصنعاء وحضرموت، ومن زملاء المدرسة، والدراسة العليا في المجر، ومن «تيليمن» و«كنديان نيكسن».
استعدت ما قيل فيه وعنه، ووعيت بعض ما يجذب الزارقة إلى الحقل المغناطيسي للعلاقات الانسانية وما يجذب زكي العبسي والقاضي والشعيبي والمغلس والمحضار والمعلمي وغيرهم من الومضات الانسانية الاثيرية ذات التأثير القوي والقادر على حفز العروق الضامرة النشوة التأمل والامل باستعادة قيمة الحياة من جوف الانقاض ومن حلق أعاصير الغبار.
ولئن كان اصدقاء الراحل المغلس برهنوا على امكانية لملمة الومضات المتواترة ونقاط الضوء المتباعدة وتقطيرها لتحصيل نخب الوطن، فقد برهنوا -ايضاً- على أن البلاد لن تخلو من الطيبين ومن الانسان رغم استذئاب عوامل التصحر والقحط والانقراض الطاردة للانسان.
وعلاوة على ذلك أكدوا أن أشكال التكافل والتضامن والاجتماع الانساني يمكن أن ترقى بالمشاعر والاذهان وتعيد الوهج إلى شموس آمال غربت، وأحلام غدرت، وتنبجس ببوارق تؤشر إلى امكانية رتق ما تهتك من أواصر انتماء للمكان والعيش
المشترك، وعناصر توليد الانسان وتكريسه كقيم سيادية رفيعة.
 الوداع للمهندس المغلس الذي تجلى حضوره المبهر في غيابه، وتكشف عن طاقة هائلة على توحيد اليمنيين، وجمعهم على وعد بوطن يتسع لجميع الحالمين بيمن متحررة (من سادة الخراب) وزاهية بمحبي الحياة وعشاقها أمثال ذلك الراحل الجميل: المغلس.. سيد الابتسامة.
mansoorhaelMail