الموقف العربي بين التشدد والاعتدال..

الموقف العربي بين التشدد والاعتدال..عبدالله سلام الحكيمي

 
لم يكن موقف العرب في يوم من الأيام أضعف وأسوأ مما هو عليه الآن للأسف الشديد. ذلك أن عوامل الفرقة والتنابذ والانقسام، الناتجة عن رؤى ضيقة وحسابات أضيق، قد جرَّأت أعداء العرب وأغرتهم بضرب المصالح العربية عموما، والفلسطينية خصوصا، في غياب معيب لأي فعل عربي يستطيع أن يقف معترضا على ما يجري أمام المسامع والأبصار، وما كان يمكن للكيان الصهيوني النازي أن يقوم بتلك المحرقة البشعة (الهولوكست) ضد إخواننا الفلسطينيين في غزة ويعيث في مساحتها، التي لا تزيد عن 350 كيلومترا مربعا، تدميرا وقتلا وسفكا للدماء مريعا؛ لو كان العرب موحدي الموقف على رؤية مشتركة واحدة، لا، ولا كان العالم الذي فقد ضميره وأخلاقه يقف بين مؤيد للعدوان صراحة، وساكت عنه تواطؤاً أو خوفا من التحالف الأمريكي الإسرائيلي المؤسس على منطلقات دينية تحكمها أساطير الإبادة الجماعية للجنس البشري، والمسيح المخلص، وشعب الله المختار... الخ.
ويعجز الإنسان العربي عن تفسير سبب هذا الانقسام والتناحر الذي أصاب الموقف الرسمي العربي بالشلل والعجز؛ إذ لا يرى له أدنى مبرر موضوعي وحقيقي، اللهم إلا إذا كان بحث هذا الطرف أو ذاك عن مصلحة آنية أو دور هزيل وضيق الأفق. ومع ذلك فلا الخاص تحقق، ولا العام تأتَّى. فالخاص إذا لم يستمد قوته من العام لا يعدو كونه سراباً بقيعة يحسبه الضمآن ماء. كما أن العام إذا لم يأخذ في اعتباره الخاص كان هو الآخر خبط عشواء...
ففي 5 يونيو 67 انهزم العرب لأنهم لم يستطيعوا توفير الحد الأدنى من الرؤية المشتركة لموقف عربي موحد في مواجهتهم للعدوان الإسرائيلي؛ لكنهم في 6 أكتوبر 73 حققوا انتصاراً لأن مثلث الثقل العربي (مصر، سورية، السعودية) استطاع أن يصوغ رؤية مشتركة وموقفا موحدا في مواجهة العدوان والاحتلال الإسرائيلي. ولقد أعطت هذه التجربة نموذجاً إيجابياً ينبغي أن يقتدى به، وهو أن من حق كل نظام سياسي أن يكون كيف شاء، فذلك لا ينبغي أن يكون حائلا أمام اتفاق الأنظمة العربية على رؤية وموقف واحد في مواجهة التحديات الجسيمة والمخاطر المحدقة بهم جميعاً.
فلم يكن مقبولاً ولا مستساغاً، وخاصة في مأساة الحرب العدوانية على غزة أخيراً، أن نسمع من يخون أو يكفر أو يسيء إلى بلد كمصر، هو، بحكم جغرافيته وتاريخه وثقله وعلاقته ونفوذه، قائد للوطن العربي منذ أقدم العصور وحتى اليوم. إن خطأً فادحاً قد حدث حينما انطلق البعض يشن حملة ظالمة وعدائية ضد مصر، مسيئين إليها وإلى دورها ومكانتها الرائدة. وما كان ينبغي أن يتم التعامل مع مصر عبر تحريض الشارع وتهييجه عليها وعلى دورها ومكانتها والمزايدة على تضحياتها الجسيمة على امتداد مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، ولا عبر تجريد الحملات الإعلامية العلنية المعادية، وإنما يتم فقط عبر الحوار الأخوي الهادئ والمسؤول، وأيضا عبر العتاب الودي الحريص والمسؤول.
وكيف يمكن أن نتصور موقفا عربيا يمكنه الوقوف ثابتا بغياب قوة قائدة كهذه. وكذا الحال بالنبسة لبلد كالسعودية له مكانته الدينية العالمية وعلاقته الدوليةونفوذه المعروف.
وبالمقابل فإنه لمن العبث والتخريب أن يتصور أحد أن من المفيد للموقف العربي إقصاء بلد كسورية، واستبعاده وعزله؛ ذلك أن الموقف العربي المنشود لا يستفيد من ذلك، بل يخسر خسارة فادحة. وبمثل هذه النظرة يمكننا أن ننظر إلى سائر البلدان العربية الفاعلة، كدولة قطر ودولة الإمارات العربية والجزائر وليبيا وغيرها. إذ لا يمكن للموقف العربي أن يكون قويا وفعالا ما لم تتكامل قوى وإمكانيات وقدرات جميع دوله، ولا يمكن للعالم أن يحترم العرب ما لم يكونوا مستندين إلى موقف واحد موحد حول استراتيجية تخدم مصالحهم وقضاياهم المصيرية التي لا خلاف عليها، خاصة والعالم العربي اليوم يواجه خطرين استراتيجيين بالغي الخطورة: الأول يتمثل في الانعكاسات المدمرة للأزمة المالية العالمية التي تعصف بالعلم كله وتزلزل استقراره الاقتصادي والسياسي، والعالم العربي سيكون بغير شك أكثر بقاع العالم تضرراً بالآثار والنتائج المترتبة على تلك الأزمة، خاصة وأنه يحوي في أرضه الممتدة الجزء الأكبر من احتياطيات النفط والغاز في العالم. والثاني يتمثل بصعود وتنامي نفوذ التيارات الدينية واليمينية المتطرفة، وسيطرتها على مفاصل السلطة البرلمانية والتنفيذية في الكيان الصهيوني. ومعلوم أهداف هذه التيارات المتمحورة حول طرد الشعب الفلسطيني من وطنه: كامل أرض فلسطين التاريخية، والدفع به إلى الأردن كوطن بديل وربما جزء منه إلى أرض سيناء.
ولا شك أن لهذين الخطرين الاستراتيجيين عواقب وخيمة جدا وآثارا مدمرة على الكيانات العربية كلها، وعلى حاضر ومستقبل الوطن العربي بكامله. فهو –إذاً- واقع لم يعد يحتمل أدنى قدر من العبث والمزاح، بل يتطلب الارتقاء سريعا إلى أعلى درجات الشعور بالمسؤولية، والإحساس بالخطر، والانطلاق إلى التعامل معه بجدية وفاعلية، عبر تأسيس أرضية عربية مشتركة متكاملة تصون مصالح الأمة وقضاياها المصيرية وتوفر الحد الأدنى من مقومات الصمود ومواجهة التحديات والمخاطر المحدقة. وهذا مطلب ممكن بلوغه، خاصة وأن أنظمة الحكم العربية المتعددة، على اختلاف منطلقاتها وأهدافها وتوجهاتها، لا تختلف فيما بينها اختلافات جوهرية فيما يتعلق بالقضايا العربية المصيرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وتنحصر اختلافاتها في تباين وجهات النظر أو في الأساليب أو في التفاصيل. فجميع الدول العربية مثلا أجمعت على صيغة المبادرة العربية للسلام، التي كانت أولا مبادرة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ثم تبناها العرب في مؤتمر القمة العربية في بيروت، وهي مبادرة تدعو إلى تحرير الأرض العربية المحتلة، بما فيها الأرض الفلسطينية، المحتلة منذ عام 67، مقابل سلام شامل بين العرب والكيان الصهيوني. وإذاً، فليس هناك دولة واحدة تحرم مبدأ التفاوض السلمي مع الكيان الصهيوني، كما أنه لا توجد دولة عربية واحدة تحرم اللجوء إلى أشكال وأساليب المقاومة المتعددة للكيان الصهيوني، بما في ذلك الكفاح المسلح، إذا ما كان هناك ضرورة تقتضيه. ومثلما أجمع القادة العرب على مبادرة السلام، وهي ليست مقدسة لا يجوز المساس بها، فإن بمقدورهم أيضا أن يعيدوا النظر فيها مجتمعين، تطويرا أو تعديلا أو إلغاء.
إن العرب جميعا مطالبون –الآن أكثر من أي وقت مضى- بالانطلاق الجاد والسريع جدا في تحرك ذي ثلاث شعب:
الأولى: مصالحة فلسطينية عاجلة تقوم على أساس احترام إرادة الشعب الفلسطيني الحرة عبر صناديق الاقتراع.
الثانية: مصالحة عربية لا إبطاء فيها تقوم على رؤية استراتيجية متفق عليها تؤدي فيها كل دولة دورها، في جهد عربي متضامن متكامل نحو وضع أهداف تلك الاستراتيجية موضع التنفيذ.
وفي اعتقادي أن المصالحة الفلسطينية والمصالحة العربية تتم على أفضل وجه من خلال إعادة ترتيب أضلاع مثلث الثقل العربي (مصر، سورية، السعودية) أولاً؛ إذ به ومن خلاله يمكن شد وربط الأطراف العربية كلها إلى أضلاع المثلث.
الثالثة: إرساء تفاهمات حقيقية قائمة على الأهداف والمصالح المشتركة مع قوى المحيطين الإقليمي والدولي (إيران، تركيا، إندونيسيا، الهند، باكستان، ودول أمريكا اللاتينية الداعمة للقضايا العربية). وهذه الشعبة مهمة للغاية في إيجاد أرضية تفاهمات واسعة لمواجهة اصطفاف كل دول العالم الكبرى دعماً وتأييداً للعدوانية الصهيونية على نحو أو آخر، عبر تأسيس قوة ضغط إقليمية دولية واسعة مناصرة لقضايا الشعوب العادلة.
ويظل دور مصر فاعلاً وأساسياً وصولاً إلى تحقيق غايات شُعَب التحرك العربي العاجل المشار إليها آنفاً، انطلاقاً من مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي أطلق في القمة العربية الاقتصادية في دولة الكويت دعوة للمصالحة العربية الشاملة، واستئناساً بتصريح رئيس الحكومة الفلسطينية، إسماعيل هنية، إلى وكالة الأنباء السعودية، تأييداً لمبادرة الملك عبدالله، وإشادة بدور السعودية في دعم ومناصرة ومساندة القضية الفلسطينية وقضايا الأمتين العربية والإسلامية.
وأي إبطاء أو تقاعس عن إنقاذ الموقف العربي من حالة التمزق والانقسام والشلل فإن العواقب والآثار ستكون حقاً كارثية، في ظل الأزمة العالمية المالية وتداعياتها المروعة وتكالب المخاطر والتحديات المصيرية المعادية التي تحيط بأمتنا، ولن تقوم للعرب قائمة عزيزة كريمة في عالم اليوم لعقود طويلة قادمة من الزمن.
فهل قادة العرب قادرون على استشعار مسؤوليتهم التاريخية الجسيمة؟
ذلك ما نأمل!