الذين نصروا إسرائيل

الذين نصروا إسرائيل - حسن العديني

لا قيمة للكلمات أمام الدم الفلسطيني في غزة، غير أن الصمت عار، كما قال شاعر عربي منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
لكن، أليس الاختباء وراء الكلمات سوى عار آخر؟
ذلك مالم يقدر على احتماله شاعر بحجم اللبناني «خليل حاوي» عندما غزت إسرائيل بلاده في صيف 1982 فاختار الانتحار، ورمى بنفسه من شرفة شقته في بيروت.
فعل هذا من قبل التشيكي «بارنش»، إذ أحرق نفسه في أحد ميادين «براغ» احتجاجاً على الغزو السوفيتي لبلاده من أجل إجهاض إصلاحات «دوبتشيك» والقيادة الجديدة للحزب الشيوعي التي أرادت أن تعطي الاشتراكية وجهاً إنسانياً.
خلال الحرب على «غزة» نقلت الفضائيات صورة رجل تركي أحرق نفسه في ساحة عامة بأستانبول. واتفق رد فعل مواطن مصري مع حاخام إسرائيلي، فالاثنان أحرقا جوازي سفرهما في رسالتين لإعلان البراءة من دولة همجية وسلطة عربية متواطئة.
للأسف لم أجد في نفسي شجاعة «بارنش» أو «حاوي». ولم أفعل غير تمزيق مسودات مقالات كتبتها منذ بدأت مذبحة «غزة» بعد أن قدَّرتُ أنها لاتستحق النشر. ثم لم أعثر على تفسير لهذا التصرف غير حالة اكتئاب ممضٍ بتأثير الصور المأساوية المنقولة من غزة.
لعل الاختباء وراء الكلمات أخف وطأة على امرئ لا يقدر على جسارة الموت انتحاراً. أما أفدح العار فيقع على الأنظمة التي تتحكم بمصير الشعوب العربية وتمنح الفلسطينيين كلمات موازية. فإذا حَمَلَتْ على الدول الداعمة لإسرائيل اختارت أعذب الكلام في المخاطبات واللقاءات الخاصة.
أكثر من هذا ثمة من ينظِّم مسيرات تدين العدوان لإظهار انسجامه مع الشعوب أو لامتصاص غضبها. وقد يمارس ذلك من باب إسقاط الواجب فقط، لكن هذه التصرفات غير مفهومة بطبيعة الحال، إذ ليس في غير الوطن العربي تتخلى الحكومات عن الفعل وتسرق من الجماهير أضعف الايمان وهو الهتاف.
على أن ما هو أكبر من عار الصمت وأخزى من الكلام الكذب اقترفته أنظمة عربية هذه المرة وهو التواطؤ السافر مع العدو. وقد كشف قادة اسرائيل واقع أن دولاً عربية طلبت منهم تخليصها من شوكة حماس.
بالفعل، هم لم يخفوا هذا. فمصر حمَّلتْ حماس مسؤولية الحرب منذ يومها الأول، وقامت بعمل آخر رديف فأغلقت معبر رفح لمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى الشعب الفلسطيني. ولم يتحرَّج الرئيس مبارك من القول إن رفح تحت الاحتلال ومن الواجب إخضاع المعبر لإشراف إسرائيل كي لا تدخل منه أسلحة أو مخدرات أو أية ممنوعات أخرى. ولم تكن رفح محتلة في ذلك الوقت ولا كان هناك من يرضى لرئيس مصر أن يعطي المحتل مشروعية قانونية لا يقرها القانون الدولي. كما أن أحداً لايريد لمصر أن تنسى أنها تكفَّلت بدعم الثورة الجزائرية وأرسلت إلى رجالها السفن محملة بالأسلحة إلى الموانئ التونسية بعِلم فرنسا ورغماً عنها. وأما المملكة السعودية فقد التزمت الصمت خلال الأيام الأولى للحرب، وعندما تكلمت تبين أن ما تعرفه وتوافق عليه هو نفس ما تعرفه مصر وتوافق عليه.
ومن أجل حرمان المقاومة من أي غطاء سياسي عربي، ولتوفير فسحة كافية من الوقت للجيش الإسرائيلي حتى ينجز مهمته تصدَّت مصر والسعودية للدعوة إلى قمة عربية، وقامت بمناورة نقلت القضية إلى مجلس الأمن حيث الفيتو الأمريكي يحمي اسرائيل من قرار قوي. في نفس الوقت أطلقت مصر مبادرة جاء بها الرئيس الفرنسي بعد أن أجرى مشاورات مع قادة العدو والمسؤولين في الإدارة الأمريكية. وأياً ما كان مضمون المبادرة الذي يخدم إسرائيل فقد بدا أن الغرض منها إحراج حماس في حال رفضتها، وأما اذا قبلت التعامل معها فهي تمدد الوقت المتاح أمام إسرائيل لمواصلة حملتها العسكرية خلال مدة المفاوضات التي يمكن أن تطول أو تقصر بحسب تطورات الأوضاع في الميدان.
ثم صدر ذلك القرار الهزيل من مجلس الأمن وتحتَّم تجديد الدعوة إلى قمة عربية فاستبسلت القاهرة والرياض لمنع انعقادها. وكانت الذريعة بأنها تحتاج إلى إعداد كاف دون أن يحدد الوقت الذي سيستغرقه الاعداد لاجتماع يدين العدوان ويضع المجتمع الدولي أمام مسئولياته في إلزام إسرائيل بوقف العدوان والانسحاب من غزة. ولما أخذت الموافقات على حضور القمة تتتابع اقترحت مصر مناقشة الحرب على هامش القمة الاقتصادية في الكويت. وتأكد مرة أخرى افتقاد الدبلوماسية المصرية للذكاء حين برر الوزير أحمد أبو الغيط موقف بلاده بأن قمة الدوحة «ستقضي على قمة الكويت التي استغرق الاعداد لها سنة». ولم يقبل هذا التفسير أكثر الناس بعداً عن السياسة. مع ذلك فقد كادت القمة تنعقد بالأغلبية المطلوبة لولا أن بعض الدول العربية سحبت موافقاتها على المشاركة فجأة.
ليس مؤكداً، لكنه غير مستبعد أن تكون الولايات المتحدة قد تدخَّلت بشكل مباشر لإقناع قادة هذه الدول بالتراجع، والأقرب إلى اليقين أن الكرم السعودي مارس غوايته وإنْ لم ينجح في إسالة لعاب قادة دول فقيرة كجيبوتي وجزر القمر والصومال.
وهنا تبين أن الأمر ليس أمر ذكاء من عدمه لأن الكارثة في غزة أكبر من أي مبرر للسكوت عنها. فعلى المثال السعودي والمصري احتمى المتراجعون وراء أقبح الأعذار. وقالوا بأنهم ارتدُّوا بسبب عدم اكتمال النصاب رغم أن النصاب كان متوفراً بحضورهم.
قالوا أيضاً إن السبب هو حرصهم على وحدة الصف العربي رغم أن وحدة الصف لا أهمية لها إذا كان ثمنها مباركة إهراق الدم الفلسطيني. وهم على أي حال لم يدفعوا الانقسام العربي بقدر ما اصطفوا مع المتآمرين على الفلسطينيين. وقد برع رئيس وزراء قطر في كشف تعاسة حججهم من خلال نموذج رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
لقد انعقدت القمة بدون مظلة، الجامعة العربية وخرجت بقرارات تمثل الحد الادنى وهو مستوى مقبول في الظروف العربية الراهنة، وقبل أن يذهبوا بها إلى الكويت كانت اسرائيل قد أخذت اكثر من الوقت اللازم لكي تكتشف أنها لاتستطيع أن تغرق في الفضيحة الاخلاقية اكثر مما غرقت. فقد فشلت بعد أكثر من ثلاثة أسابيع في تحقيق السقف الأعلى لأهداف الحرب وهو القضاء على المقاومة وقتل واعتقال قادتها إذ وجدت أن التوغل في مدن غزة سيكلفها الكثير من الأرواح أمام ما أبداه الفلسطينيون من شجاعة وبراعة في التكتيكات، وأن الاستراتيجية الوحيدة الممكنة لاستمرار الحرب هي تدمير مدن غزة بالكامل.
سارعت وزيرة خارجية إسرائيل إلى الولايات المتحدة لتوقيع مذكرة تفاهم مع نظيرتها الأمريكية، اتفقتا فيها على ما يمكن أن يسمى بالبلطجة في البحار ما يدلل على أن الموضوع اكبر من مراقبة تهريب السلاح إلى غزة. وسارع الرئيس مبارك إلى دعوة رؤساء أوروبيين وعباس وعاهل الأردن وأمين عام الامم المتحدة إلى شرم الشيخ.
كان لافتاً أن الدعوة طلبت منهم الحضور في غضون ساعات. ولأن رئيس فرنسا أو رئيس وزراء بريطانيا أو المستشارة الألمانية ليسو موظفين مع الرئيس المصري فإن أفصح الأدلة على أن الاشياء مرتبة من قبل تبَّدت في سرعة استجابتهم ونزولهم في «الشرم» ثم انتقالهم بما اتفقوا عليه وما يطمئن إسرائيل إلى تل ابيب.
واقع الأمر أن إسرائيل فشلت في الحرب اذ لم تفعل أكثر من قتل السكان وتدمير المنشآت إضافة إلى (قتل) اثنين من قادة حماس والقليل من الكوادر. مقابل هذا فإن خسارتها جسيمة على المستوى الأخلاقي لكنها تراهن على ضعف الذاكرة وقدرة الحركة الصهيونية على مسح صور الجرائم التي ارتكبتها في غزة. والأرجح أنها رغم الفشل العسكري سوف تربح سياسياً بفضل الإسناد العربي الواضح والمكشوف.
فشلت إسرائيل على الأرض، لكنها رغم ذاك بدأت في استلام جوائز الحرب، وأثمن الجوائز منحتها إياها القمة العربية في الكويت، وهي التمسك بالمبادرة العربية للسلام.
ذلك هو القرار الوحيد الواضح الصادر عن القمة. إلحاح في تسول السلام من عدو والغ في الدم.
تلك هي الفضيحة.