هدوء.. الآن يطلقون النار

«هدوء! إنهم يطلقون النار».
هدوء الأمسيات الرقيقة الحالمة يخيم على مخادع الحكام. لا شيء يعكر صفو القصور الرئاسية. الموت المجاني، ولعنة وأشلاء الصغار، وانتحار المدن، كل هذه مجرد تفاصيل صغيرة، لم تكن يوماً تمثل لأنظمة الاستبداد مشهداً خارج مألوف حكمهم المضمخ بشلالات الدم المراق، المطرز بنتف اللحم ومزق أجساد الضحايا.
لا جديد في غزة يحرك ساكن بلادتهم الأبدية، وخدرهم الدهري اللابد في صولجاناتهم، منذ وضع أحقر زعيم منهم جزمته على قصره الرئاسي، مفتتحاً موسيقاه الجنائزية، وبطولاته الخارقة ضد مستضعفي حكمه، صانعاً أعياده الوطنية بحمامات الدم وينابيع الدموع، بشلالات القهر وعويل الثكالى.
«هدوء! إنهم يطلقون النار».
أطفال غزة يبادون! سيقولون: وماذا في الأمر من فاجعة؟! أطفال غزة مثلهم أطفال صعدة، مثلهم أطفال دارفور، وأطفال عدن، أطفال بيروت وحماة وحمص، الساقية الحمراء ووادي الذهب... لكل حاكم عربي «غزّته»، له قتلاه ونوابته، له روزنامة كاملة من الصولات والجولات، من الممانعة والجرائم والأحزان، من التجويع والحصار وحروب الإبادة، من العقاب الجماعي وتكميم الأفواه وكسر العظام.
«هدوء! إنهم يطلقون النار».
نيون يافطة لكل قصر رئاسي، لكل حاشية ملكية، فقد سئم حكامنا النكران من لغة الخطابة، سفسطة الإدانة، ومراجيح هدهدة القمم.
«هدوء! إنهم يطلقون النار».
قليل من النعاس يكفي، كثير من الصمت وبلع اللسان، من التمويه ومناورات الكواليس وحذلقات هدر الوقت، يكفي كي تمر مذبحة غزة، في رحلة التيه من الذاكرة المثقوبة بالنسيان. تمر بعيداً بحثاً عن حفرة وأد، في ضرائب العار الرسمي، التقليدي الاعتيادي الرتيب.
لا شيء يوخز الضمير، يفتح خزائن السلاح أو حتى مستودعات الدواء والطحين، فلكل حاكم «غزّته»، وله نياشين القتل والموت الجمعي بلا ثمن.
«هدوء! إنهم يطلقون النار».
العروش تتثائب من غفوتها الدهرية. غزة تسوى بالارض، تبصق دمها على بزات الحكم، تلوث نياشين الحكام، تلطخ ربطات أعناقهم برفاناتهم الباريسية. ولا شيء يوقظ في داخل جيف الصالونات، نبض الإنسانية، وحدة الانتماء، وواحدية الألم.
سفاهة وبلادة وعري سافر رسمي، لا فرق، لا جديد، لا عار في مذبحة «غزة»، صغيري المشع يكفن الرحيل، جميعهم شركاء في الدم المراق، من مصر كافور إلى المنطقة الخضراء، إلى قصر الستين؛ فحكامنا، لكل منهم غزّته، من أطفال فلسطين، إلى دار فور، إلى أطفال عدن.
«هدوء! إنهم يطلقون النار».
وسط كل هذه البشاعات، هذه المذابح، وسط ركام هذا الدمار، المحارق، وكل هذا الجحيم، لا تبحث يا صغيري تحت حجر البطولة في حكامنا، عن شرف وانتماء ورجولة.
لا تفتش يا صغيري! كلهم قتلة.. لك وحده الله، ولهم من التاريخ خيط دمك مشنقة، ولهم من التاريخ لعنة الأبد وصفحات المزابل.
«هدوء إنهم يطلقون النار».
[email protected]