القتل حين يفصح عن مصير اليمن!

القتل حين يفصح عن مصير اليمن! - ماجد المذحجي

* عن د. درهم القدسي

يفصح الشروع بالقتل، الذي تعرض له الدكتور درهم القدسي، عن ضعف عميق في الحماية التي توفرها المهنة والقيم المدنية في اليمن للمواطنين؛ حيث لا تشكل الممارسة المهنية، الناتجة عن تحصيل علمي، اعتباراً محترماً ومحمياً في مجتمع يسبغ تقديره فقط على "حمران العيون" من القتلة وقطاع الطرق والفاسدين، ويوفر لهم الحماية بسهولة، وحيث يصبح من السهولة تداول أحاديث، مختلقة أو حقيقية فهي تشير لوعي مخيف وبدائي، منسوبة لوزير الداخلية يبرر فيها قتل الدكتور بوفاة المريض ضمن منطق "واحد بواحد"، ليصبح الموقع الأمني الأول -ضمن هذا السياق- محلاً لتسويغ القتل وتجاوز القانون و"كلفتة" المطالب بالقبض على الجناة ومحاكمتهم!
حتى الآن المعتدي يحظى بالحماية من قبيلته، ويحظى الضحية بالتضامن من زملاء مهنته. الدافع فيما يخص الأول هو روابط العصبية البدائية، والثاني يتعلق بالانتماء لقيم المهنة وروابطها الحديثة. الفارق بين الدافعين هو الفارق بين "حالين" في اليمن وتصورنا لمستقبلها، حيث تتزاحم قيم بدائية وحديثة في مجتمع لم يقرر إلى أين يمضي، وحيث تصبح حماية الجاني تأكيدا على غلبة الاختيارات القديمة والبدائية وسيادة منطق العنف والقوة، وعلى مصير سيئ لدولة القانون والمساواة، وإنكارا نهائيا للوعد الرسمي المتكرر ببلد أفضل، ليصبح المواطنون عرضة للقتل والانتهاكات إن كانوا لا يحضون بحمايات القبائل أو مراكز النفوذ.
لم تكن السهولة في الشروع بقتل الدكتور درهم القدسي لكونه ينتمي ل تعز، بالنسبة للجاني، بل لكونه طبيبا يمارس وظيفة غير مؤيدة بأي نفوذ أو قوة، سوى امتيازها الأخلاقي كمهنة إنسانية، وإن كان لا يمكن إغفال أن أحد الأسباب الضمنية في عدم القبض على المتهم حتى الآن من قبل الدولة لكون درهم ينتمي لمنطقة متخففة من العصبية القبلية وليست ذات غلبة وقوة ضمن المنطق السائد.
 لقد قام الجاني بالاعتداء عليه دون معرفة مسبقاً، معززاً بوحشية يغذيها منطق القوة العارية من الأخلاق، وثقافة عنف سائدة تحمي الأكثر قدرة على الفتك، مطمئناً لإمكانية العودة إلى القبيلة وحماية "الشيخ" في مواجهة جريمته وبأقل قدر من العواقب، حيث يمكن في أقصى حد تسليم "آخرين" من إخوته أو أبناء عمه كرهائن، في أداء رسمي وقبلي معتاد يتم به المماطلة بالقضايا حتى يهدأ الغضب بسببها ويمكن إما الفرار بالمتهم، وإما الضغط على أهل الضحية بعد أن ينفض التعاطف من حولهم للوصول إلى تسوية خارج القانون.
إن ما حدث هو اعتداء على تصورنا ليمن حديث ومحترم ومتقدم، وهو فعل لم يُبْقِ منطقة آمنة في المجتمع، لتصبح حتى المستشفيات أماكن غير محمية وغير آمنة، قانوناً وعرفاً، يسهل فيها القتل والاعتداء، وحيث يصبح تخلي الدولة عن مسؤوليتها في الحماية مؤشراً إلى انهيارها وانحدار المجتمع إلى غابة مليئة بالعنف.
يحاول الأطباء مناهضة تخلي الدولة الفادح هذا، ويقدمون نموذجاً تضامنياً مدنياً فريداً ينتمي إلى أدوات العصر، ضداً على عنف بدائي أعمى يعصف بكل شيء في اليمن. إن الاعتصامات والإضرابات التي يقومون بها هي تمكين للمجتمع بأسباب قوة حديثة وغير مؤذية، في مواجهة المظالم والانتهاكات، ولتحقيق المطالب وتحصيل الحقوق، وهي فعالية في تراكمها ما يُمكّن من وقف هذا الانحدار المرعب، ويقود إلى إنشاء حمايات خارج العصبيات البدائية للمواطنين.
يحتاج وزير الداخلية، وقادة الأجهزة الأمنية، والمسؤولون في الدولة، إلى القيام بواجبهم في قضية الدكتور درهم القدسي، لنطمئن -على الأقل- أن من يمارس مهنته لن يقتل ببساطة. ويفترض أن يقابل المجتمع مهنة إنسانية عظيمة كالطب بالتعاطف والتضامن أكثر. يحتاج أيضاً مشايخ القبائل لتقديم نموذج محترم في عدم حماية القتلة، وأن يطمئنوا المجتمع بأنهم ليسوا أعداءه ولا حماة للمعتدين على الأطباء أو المهندسين أو المعلمين، وكل الفئات المهنية التي تجعل من هذا البلد مكاناً صالحاً للعيش.
 
***
 
* بلاد ضيقة ومليئة بالكراهية
ماشا النهاري فرد بملامح يمنية معتادة، الزي واللهجة نفسيهما، ولا يمكن تمييزه في ظروف اعتيادية، لولا الزنار المتدلي على جانبي وجهه. إنه –ببساطة- مواطن يمني ينتمي للديانة اليهودية، قُتل لكونه كذلك. لم يقم قاتله بما هو استثنائي بالفعل، لقد نفذ ما في صدور الجميع فقط، استجاب لثقافة كراهية تبرر القتل يومياً، وقام بإعلان ما تؤمن به الغالبية في اليمن، حيث الدعوة لقتل المختلف دينياً وثقافياً، وأيديولوجياً أيضاً. جملة متداولة، ويتغذى الأفراد عليها باستمرار، عبر التلفاز والصحف، وفي خطبة الجمعة التي تختم الدعاء في كل أسبوع بـ"اللهم اهلك اليهود والنصارى!"، ليصبح كل ذلك مسوغاً سهلاً لقتل ماشا النهاري، ويمكن أن يصبح أيضاً سبباً للتقرب إلى الله، أو الانتصار لفلسطين. إنه قاتل لا يحتاج لتبرير جريمته. وما يقوله في المحكمة يتكرر في الجملة اليومية التي يتلقاها اليمنيون وينفعلون معها. لقد نطق جملة القتل التي نتبناها جميعاً فقط.
لقد استجاب اليمنيون الذين يدينون باليهودية لكافة أشكال التمييز الاجتماعية والقانونية ضدهم، كما فعل أسلافهم منذ قرون طويلة، ليتكيفوا مع المجتمع ويحظوا بالحماية والأمان، واستمروا بالحياة في هذه البلاد ضمن ظروف صعبة وشروط قاسية حرمتهم من أبسط الحقوق كمواطنين، ودون أي تذمر، وكان عليهم إثبات انتمائهم ووطنيتهم باستمرار: خضعوا لأعراف مناطقهم ومشايخها، وبايعوا الرئيس في الانتخابات الرئاسية، وأدانوا الاحتلال الإسرائيلي والهجوم على غزة، وتبرعوا بالدم للفلسطينيين، و... و... و... الخ. ولكن كل ذلك لم يعد كافياً كما يبدو الآن، فعليهم أن يدفعوا ثمن ثقافة الكراهية والتحريض القومي والديني، وغياب المساواة والعدالة، وعدم وجود دولة تضمن الحماية والحقوق لمواطنيها دون أي تمييز.
بعد مقتل ماشا، تمسك والده بحقه في إدانة القاتل والاقتصاص منه، وطالب بإنفاذ ما ينص عليه شرع المسلمين فقط، لم يطالب بالكثير. وكان أن عُرض القاتل على القضاء. يفترض أن يمضي الأمر ضمن ظروف طبيعية عقب ذلك، وأن ينال القاتل عقوبته؛ ولكن مقتل ماشا ومحاكمة قاتلة فتحت طاقة الكراهية حتى الأخير، وأفصح عن مجتمع عدواني بشدة، وعن دولة ضعفية ومهترئة لا تستطيع حتى توفير الحد الأدنى من الحماية لمواطنيها، ليتعرض اليمنيون اليهود للقذف بالحجارة من الأطفال في عمران، وللتهديد بالقتل باستمرار، علانية، في المحكمة وعبر رسائل الموبايل، من قبل أشخاص وجهات معلومة؛ ليصبح مآل الأمور أن تقوم الدولة بتهجيرهم من مناطق سكنهم بدلاً من حمايتهم وضمان حياتهم وتحصيل حقوقهم. إن كل ذلك هو عنوان عريض تماماً لدولة فاشلة تحمي العنف والكراهية، وتتواطأ مع التمييز وانتهاك الحقوق وغياب القانون.
على الأغلب –إذاً- انه لم يعد بإمكان اليمن احتمال 300 يمني يهودي فقط، والبداية السهلة هي نقلهم إلى صنعاء، وإن كان بالإمكان فترحيلهم خارج اليمن لضمان راحة البال كلياً، ويصبح على 20 مليونا أن يتطابقوا في المعتقد أخيراً، وربما عليهم أن يتطابقوا في المذهب أيضاً في وقت لاحق. يبدأ الأمر باليهود إذاً، ليصبح من السهل لاحقاً تصفية الآخرين؛ الإسماعيلية على الأغلب، وربما المتصوفة والزيود أيضاً، فمن يدري إلى أين تمضي أحوال التطرف والكراهية باليمن؟!
م. مmaged