يحتاج الفلسطينيون لمحيط من البشر

يحتاج الفلسطينيون لمحيط من البشر

محمود ياسين
تبقى لدينا مجموعة شتائم. وأنا أكتب عن غزة فكرت  في محمد حسنين هيكل وتحليلاته العميقة بمنأى عن موقفه العاطفي من إسرائيل. هو لم يقل يوماً: «هؤلاء القتلة».. وما شابه. وتحول الوضع في المنطقة إلى حالة ملل واستعلاء عند المثقفين تجاه شتائم خطباء الجوامع عن احفاد القردة والخنازير واستعلاء على التقارير الاخبارية العربية عن حالة الهوان والتردي العربي.
أنا بحاجة لموقف إنساني يتجاوز مجموعة العقد التي ورطنا فيها الوجود الاسرائيلي وإحالتنا إلى مجموعات مرتابة بالقومية والشارع العربي وتخوين الرؤساء. ولم يعد لائقاً التقليل من شأن حماسة رجل في المظاهرة يصرخ: افتحوا باب الجهاد.
لقد تخطى الألم الفلسطيني في هذه المنطقة مسألة العذابات الإنسانية إلى البحث القسري عن شهامة عربية وتضامن عقائدي، وتورط الفلسطينيون في نتائج اختبارات تلك الشهامة ودفعوا أكثر من غيرهم ثمن إخفاقات المشروع القومي.. لقد تورطوا في انتظار واجب الاخ الذي يعاني مشاكل نفسية .. إذ لا أسوأ من انتظار نجدة أخ عاطفي للغاية، متشنج يشعر بالذنب، تتلاشى قوة الفعل لديه في احتدامات عدم القدرة على الفعل.
كان يجدر بفلسطين أن تقع في خارطة محاطة ببشر، وليس بأشقاء وضمن جغرافيا سكانية غير معقدة إطلاقاً. ومع أنه ليس عسيراً على بشر العالم الذين لا يتاخمون فلسطين أن يسمعوا عذابات أهل غزة الآن، غير أنه غريب كون العالم لا يتفاعل وغريب أمر هذه المؤامرة التي علمتنا كيف نرضخ لفكرة العصابة السوداء التي وضعتها اسرائيل على عيون العالم.
قبل يومين استخدمت ردة الفعل المتداولة، ربما بتخصص أكثر من قبل: هؤلاء ليسوا بشراً، ناهيك عن مفردات حثالة وإسرائيليين غير اسوياء. لكن الأمر بقي هنا في حالة كراهية لا تجد طريقة للتعبير عن نفسها.
يعود الامر أخيراً للرهان على أن المظاهرات هذه على قدر من الجدوى والفاعلية، على افتراض أن مشروعاً اسرائيلياً جدياً للاندماج في المنطقة يمكن تهديده بالمظاهرات، وأن وجود اسرائيل آخر الأمر ليس مرهوناً بالقبول العربي الكامل بقدر ما هو في شرط الوجود الادنى في محيط بكراهية أقل.. وهذا قائم بالنسبة لي، واجزم أن اظهار الكراهية على هذا النحو في المظاهرات يجعل من فكرة الحياة الاسرائيلية ضرباً من الرهان على البراعة في العيش في حقل ألغام.. في اسرائيل من يكترث لمران الجسد العربي على رفض وجودهم كلياً.
لكن لا أحد في غزة يكترث لهذه الامور الاستراتيجية، وتلك الأم التي ظهرت في التلفزيون عاجزة حتى عن لعب دور الأم الفلسطينية المتعارف على صوتها.. لا تحتاج الآن لتهديد الوجود الاسرائيلي طويل المدى.
لا تحتاج حتى لأن يفتح المصريون معبر رفح أو تطرد قطر موظفي المكتب التجاري الاسرائيلي في الدوحة.
لا شيء يجعل من آلامها أقل. ولم يخطر ببالها حذاء منتظر الزيدي ولا كون مشروع المقاومة الذي تديره حماس قد أفقد اسرائيل اعصابها.. تحتاج الجموع الانسانية التي تختبر فظائع الحياة في غزة عالماً أقل تعقيداً وضمانات تشتغل على ما هو بسيط أكثر وأساسياً أكثر.
وبالنسبة لامرأة تجاوزت الستين بقيت تتوسل الاقدار وتتحاشى فقدان أحد الأبناء، وتشكر الحياة في سرها على هذا الاستثناء، ثم وفجأة تفقدهم جميعاً في الاحداث الاخيرة بغزة.. لا يعود لائقاً بها تلك الصورة المهيبة عن أم الشهيد أو أم الشهداء.
تباغت الحياة فلسطيني الأيام الأخيرة بكوارث فقد رومانسيتها أو بعضاً من تلك الرومانسية واكتساب معنى ما، مقابل حياة تتألم.
والفكرة المتداولة عن خصوبة الفلسطينيين هي على درجة من الشناعة.. نحن نورطهم ونبتز حقهم في الخوف من فقدان صغارهم، وكأن آخر فضيلة للفلسطيني هي في قدرته على الاستمرار في إنجاب عذاباته... ومع أنني لم اسمع مؤخراً فلسطينياً يتباهى بقدرته على احتمال الكوارث وتحدي آلة الموت الاسرائيلية بأعداد جديدة من مشروع الضحايا- الفلسطينيين العاديين على -الأقل إلا أن استعراض القدرة على الموت بقي شأناً رسمياً تردده قيادات حماس مؤخراً.
ذلك أن الفلسطينيين يريدون الحياة فحسب وبلا أمجاد أو مآثر من نوع ما، وعندما اختاروا حماس لم يكونوا يختارون القتال حتى آخر رجل بقدر ما هو وضع الثقة فيمن يمكنه تخويف العدو أكثر، وبالتالي يمنحهم شيئاً من الأمان بالمقابل. حاول الفلسطينيون أشياء كثيرة منذ الفداء واختطاف الطائرات وفتيات الغترة والحزام الناسف والموت الرومانسي والمنفى ومحمود درويش. وتوقف الفلسطينيون مؤخراً مع ذهول تلك الأم عن رواية موتهم بتلك الطريقة.
عندما قال رابين في إحدى جنائز قتلى اسرائيل في الجنوب اللبناني: «ننظر إلى عيون أمهات القتلى ونطرق خجلين، ونهمس لهن: سنبقى نعود من الجبهة ونطرق أمامكن بتقدير أبدي»، علق مريد البرغوثي على كلمات رابين قائلاً: «إنه يسرق منا حتى حكايتنا لموتنا».