تركيا أسد يربض على الماء

تركيا أسد يربض على الماء - هدى العطاس

حينما يحضر الحديث عن تركيا تقفز الى ذهني صورة أسد الملاحم الهصور بجناحيه الهائلين الذين طالما فردهما على قارات العالم القديم والذي ما انفك هذا العالم يحمل بلل ريشهم. ربما ثنيت جناحات الأسد غير أنه مازال رابضا متأهبا وقادما لامحالة، هكذا خطر ببالي حينما دلفت من بوابة مطار اسطنبول الى اكتظاظ الساحة المؤدية الى المترو ومنها الى المدينة انتظارا لانتقالي الى مدينة أخرى. وأنا أعبر شوارع اسطنبول خالجني شعور أن تركيا كنز ومفاجأت تحتل اسطنبول وجهها ولكنها كعادة العواصم الكبرى لاتفصح عن كل تفاصيل تركيا الباذخة.
عبر امتداد أخضر اكتنف الحافلة التي تمخر بنا خلاله تسع ساعات، لم نر بقعة متصحرة أو جبالا قاسية، بادرني سؤال كيف لهذه النعومة الهاطلة، أن تجند تلك الجيوش الجرارة التي زحفت الى أقاصي القارات الثلاث! على مشارف بلدة "اكشهير" فارقنا الطريق الأخضر الممتد والذي واصل امتداده وخضرته، اكشهير بلدة "جحا"، أو كما يطلق عليه الأتراك: الشيخ نصر الدين خوجه، الساخر الأعظم، الذي قهر عبثية الحياة بدعابات باذخة، هزت يقينيات التنميط. ولأن الشعب التركي أمين لرموزه ويرى فخره وامتداده موغلا في حضورها وامتدادها، فإن ساحات البلدة تحتفي بتماثيل ومجسمات جحا في أوضاع وصور عديدة ومجسمات لحماره وأدوات منزله وملابسه وتفاصيل حياته اليومية، وبزهو يقول أهل القرية إنه سنويا يقام في بلدتهم مهرجان عالمي تمثل فيه فرق من كل أنحاء العالم بفنونها وإبداعاتها، ويضيفون أنه حضر كثير من الفنانين العالميين إلى بلدتهم تكريما لجحا. تذكرت لحظتها ما يحدث لرموزنا من إهمال وإجحاف وتوار في ذاكرة النسيان، لسنا سوى مجتمع يثقله حاضره ويخيفه ماضيه ويغيب عنه مستقبله،- أتدارك انجراري في ما ينغص- فاللقي التركية لم تنفد، فعلى بعد ساعتين من بلدة جحا تقع مدينة كونيا حيث يتربع بجلال ضريح مولانا، أحد أعظم أقطاب التصوف، ضريح مولانا، هكذا يطلق عليه الأتراك دونما شروحات إضافية، فمولانا في اعتقادهم لن تحيل سوى للقطب الأعظم جلال الدين الرومي. بمهابة شديدة واحتفاء باهر من قبل الأتراك يرقد الضريح الذهبي للصوفي العظيم، ومسجده وداره وقاعة درسه وملحقاتها التي وضعت داخلها قاعة سينما تعرض تاريخ الطريقة وتجليات العبادة لدى مريديها ورقصة المولوية التي نبعت من طقوسها، والتي امتدت إلى كثير من بلدان الشام وزوايا وتكيات التصوف، ودراويش الطريقة. الضريح يمثل تحفة فنية معروضة بأبهة عظيمة وممنوح مشاهدتها لكل الراغبين والمريدين دونما تعصب، من تماثيل الشمع التي تصور الشيخ وحياته في تفاصيلها اليومية إلى الى ملابسه وأدواته وكتبه ومخطوطاته وقصاصات الذكر، التي كان يتبتلها، وتماثيل مريديه والعاملين على خدمته، وحلقات الذكر والمولوية، إلى جوار مخطوطات وقطع أثرية ثمينة تمثل مراحل التاريخ الإسلامي. الضريح عبارة عن متحف يعبق بالتجليات ويخفق الروح ويخطف اللب.
حيثما تلتفت تدهشك تركيا سواء أوغلت بك في التاريخ أو قفزت بك الى واجهات الحاضر. هكذا تعلمك أنطاليا المدينة الساحلية العصرية جدا التي تعج بالمقاهي والكازينوهات وعلب الليل والشواطئ المطروزة بأجساد المصطافين بأحدث ملابس البحر، ليل أنطاكية ليل ضاج بالموسيقى التي تبثها الملاهي المتناثرة على طول الشاطئ وحفلات الغناء للفنانين الشباب من الأتراك محترفي موسيقى الراب والروك والموسيقى السريعة. الموسيقى في تركيا نهر لاتنضب روافده، والأتراك شعب يعشق الفرح ويختلق مناسبات للبهجة، وحينما تحضر ساعة المرح لايخلفونه، الكل يغني ويرقص، الشيوخ والشباب، الرجال والنساء (بلدة اجير دير). حتى إمام المسجد في تركيا لايضن على نفسه بالمسرات، حينما رأيت شابا بهي الطلعة حليق الشارب يشارك المحتفلين في مناسبة عرس رقصهم وغناءهم ويا زوجته، فغرت فاهي أنا القادمة من ذهنية المصادرة والتحريم والغبن المتلفع بالدين، سررت في نفسي هكذا له أن يكون ديننا الإسلامي، إقبالنا على الحياة لا يمنعه إقبالنا على الله.
في الطريق إلى انطاليا يلفتك وتقف متأملا ملمحا مهما يحدد حاضر تركيا ومستقبلها، ألا وهو الماء. طريق عامرة بالبحيرات تنتهي على بحيرة لاينتهي من مسحها البصر بحيرة (اجير دير) نسبة الى البلدة المصيف التي تقع على شاطئها، غير مصدقة كنت أتساءل بطفولة هل هذه حقا بحيرة أم بحر! وضاحكا يؤكد مرافقنا التركي أنها بحيرة تمثل أمنا لتركيا تكفيها أزمة الماء لقرون، تذكرت حينها ما يقال عن حرب المياه القادمة في المنطقة، ستكون تركيا أهم أطرافها وحصان طروادة الذي سيكسب المعركة، تركيا قوة تتخلق ثروتها الماء.
النظام الدستوري صمام أمان آخر لتركيا، والتقاليد السياسية التي تنتهجها ثروة لا نتمنى لتركيا التخلي عنها تحت أي شعار، والانفتاح على الحياة العصرية دونما تحفظ لم يمنع رؤية التركيات يتعبدن ويمارسن الطقوس الدينية، بعد أن يخلعن لباس البحر، أو يعدن من حفلة راقصة.
المرأة التركية يحتاج الحديث عنها الى مقال خاص لما تتمتع به من حقوق يكفلها القانون والمجتمع، الأسرة في تركيا بخير ويتمتع التماسك الأسري بالعافية، نسبة الطلاق متدنية جدا، والرجل التركي محب ومتعاون كزوج، وأفقه واسع، والثورة في أوساط المجتمع العربي التي خلقها مسلسل نور ومهند حيث هز المسكوت عنه في العلاقة بين الزوجين في المجتمعات العربية، وقدم نموذج الزوج المحلوم به، ليس إلا صورة حقيقية لمستها بين الأتراك وليس تمثيلا يغرر بالواقع.
ولا يمكن كمهتم تزور تركيا دون أن تتوقف لتقلب محطات التلفزيون التركية، وصفحات الجرائد ووسائط الاتصال والإعلام العديدة. عندهم الإعلام مفتوح ويسمح للكل لمن يريد إنشاء محطة تلفزيونية، فبعد مشاهدتك قناة حكومية تتحدث عن الانجازات، بضغطة زر يمكنك أن تنتقل لتشاهد مظاهرة أو خطبة شديدة اللهجة على قناة معارضة. الإعلام في تركيا مكرس لتركيا سواء المعارض أو الحكومي أو الخاص، فخبر عن غريق أو حالة تسمم في إحدى القرى التركية أهم لديه من أخبار أمريكا وغيرها. الإعلام كذلك إحدى وسائل العصف الإيجابي، فرسالته ليست فقط كشف سلبيات السياسي أو إنجازاته، بل التركيز على إنجازات المواطن قبل السياسي. فاختراع لأحد المواطنين يمكن أن يتصدر الصفحات وقنوات التلفزة، ويأخذ صاحبه حقه من الإشهار والتقدير. ما يدور خارج تركيا لايهم الأتراك وبالنتيجة إعلامهم إلا إذا كان يتعلق بتركيا أو له صلة مثل أن يزور أحد المشاهير تركيا فتركز عليه الأضواء.. سوى ذلك لايعنيهم. وفي نظري هكذا يكون الدور الوطني الذي يجب أن يضطلع به الإعلام. الشأن الداخلي بكل وجوهه له الأولوية.
لا يمكن مغادرة تركيا قبل أن أتذكرني في زيارة ماضية قبل سنوات حينما كتبت حينها كيف تصبح مليونيرا في خمسة أيام ما عليك سوى السفر لتركيا وصرف مائة دولار مقابل مليون ليرة. أتذكرها وأنا أتأمل راحة يدي القابضة على الليرات المعدودة التي تركها الصراف في يدي آثر صرفي مائة دولار. لقد قويت العملة التركية واستقوى الغلاء كذلك، بما يجعل المواطن والسائح يغص بالعيش فيها. وفي رحاب مسجد السلطان أحمد وبين قباب ايا صوفيا حتما سيترك الزائر لتركيا محبته تحلق خافقة تترجى عودة قريبة اليها... علي أن أقول: GOD BAY، ولكن الأتراك لايفهمون الانكليزية ولا يعلمونها في مدارسهم... وحديثنا ممتد.
hudaalattasMail