جولة في قاعات اللجنة العليا للانتخابات

جولة في قاعات اللجنة العليا للانتخابات - سامي غالب

04/05/2005
 
* الأرقام العصية
كان الدكتور محمد عبدالله السياني -رئيس قطاع التخطيط والشؤون الفنية باللجنة العليا للانتخابات- ما يزال منشغلاً بفحص بضعة أوراق على مكتبه وإجراء اتصالات هاتفية قصيرة عندما جلست أمامه لطرح أسئلة بخصوص الأولويات التي يشتغل عليها القطاع الفني.
كانت الأوراق عبارة عن جداول بالنتائج الأولية للتعداد السكاني التي أعلنت مؤخرا. والأرجح أنها كانت موضوع الحديث الذي دار بينه وزميله في اللجنة سالم الخنبشي -رئيس قطاع الإحصاء، الذي غادر المكتب لحظة دخولي.
قبل نصف ساعة أثرت مع عبده محمد الجندي -رئيس القطاع الإعلامي- موضوع نتائج التعداد ومدى انسجامها مع السجل الانتخابي الذي تم تحريره خريف 2002، وهو قال بأن نتائج التعداد متقاربة مع المعطيات الواردة في السجل الانتخابي، قبل أن يستدرك: "لم نجر أية مقارنات بعد".
الدكتور السياني، وخلافاً لزميله، استخدم صيغة النفي في رده على السؤال نفسه، منتهياً إلى التقدير ذاته: "النتائج الأولية للتعداد لم تكن بعيدة عن بيانات السجل الانتخابي" قال رئيس القطاع الفني.
وأضاف: "اللجنة ستكون ملزمة بإعادة النظر في التقسيم الحالي للدوائر الانتخابية، في حال تلقت مبكراً نتائج التعداد التفصيلية من الجهاز المركزي للإحصاء".
أظهرت النتائج الأولية للتعداد أن سكان اليمن لا يتجاوزون 19.7 مليون نسمة، في حين كانت الإسقاطات الإحصائية المبنية على تعداد 1995 تفيد بتجاوز السكان خط العشرين مليون نهاية عام 2002، وهو العام الذي أنجز فيه السجل الانتخابي الجديد بحمولته البالغة 8.5 مليون ناخب وناخبة. وهذا الرقم يمثل 80-85% من السكان في سن الانتخاب، حسب الدكتور السياني، الذي سارع ليؤكد بأن التقدير السابق مبني على مؤشرات الجهاز المركزي للإحصاء التي تظهر بأن 48% من السكان هم من الفئة العمرية 18 سنة وأكثر.
إعلان النتائج التفصيلية للتعداد سيتأخر بضعة شهور.. ومن حسن طالع الحكومة أن أحزاب المعارضة لا تحسن لغة الأرقام قدر ما تحسن لغة التذمر وما تجره عليها من ملمات ليس أقلها هدر فرص تسجيل النقاط ضد حكومة لا تتردد في توجيه الضربات الفنية القاضية لمتحديها.
هل السجل الانتخابي مثالي في بياناته؟ كلا! فلدى اللجنة العليا للانتخابات هذه المرة ما تعترف به. اكتشفنا في القطاع الفني 150 ألف حالة لناخبين تقل أعمارهم عن 18 سنة - يقول السياني.
ويضيف: «كان المنتظر أن تتخذ الاحزاب السياسية قراراً استثنائياً بشطبهم لكنهم لم يقدموا على هذه الخطوة». والمقترح جاء بناءً على توسط د. روبن مدريد - مديرة المعهد الديمقراطي للشؤون الدولية في صنعاء- شطب الأسماء بناء على توافق سياسي يتنافى ونصوص قانون الانتخابات التي تحدد آليات وإجراءات مزمَّنة للطعن في جداول القيد، قلت للدكتور السياني.
أما عبده الجندي فقد اكتفى بالابتسام لحظة سألته في حصة أي حزب تصب أغلب أصوات هؤلاء!
لذلك، ولأسباب عديدة، لن ينشغل بال اللجنة العليا للانتخابات كثيراً بما قد تثيره نتائج التعداد السكاني من جدل حول صدقية السجل الانتخابي، فلديها مؤونة الرد على أية اتهامات توجه إليها، كأن تعيد التذكير بأن للمعارضة قرابة نصف عدد أعضاء اللجان التي أشرفت على عملية القيد والتسجيل في أكتوبر 2002، وان مندوبي الأحزاب جميعاً أتيح لهم مراقبة أعمال هذه اللجان عن كثب، فضلاً عن آليات أخرى كفلها القانون.
وقد نسمع من دون أن تبدر علامات اندهاش على وجوهنا بأن عشرات الآلاف الذين سجلوا وهم دون السن القانونية قبل ثلاث سنوات باتوا الآن كاملي الأهلية للتمتع بحقوقهم الانتخابية!
أبعد من ذلك كله، لدى اللجنة من يتقدم للحديث نيابة عنها حتى من دون استئذانها، ففي التعليق الحكومي الرسمي على الانتقادات الموجهة للانتخابات النيابية الاخيرة (2003) الواردة في التقرير السنوي للخارجية الامريكية، إشارة واثقة بأن اليمن عالجت جميع الأسباب التي تسوِّغ الانتقاد الامريكي. يسجل التقرير الامريكي أربعة اختراقات شابت الانتخابات النيابية التي يصفها بأنها ناجحة: مقترعون دون السن القانونية؛ مصادرة لصناديق الاقتراع؛ ترويع للناخبين؛ شراء الأصوات.
«اليمن قامت بمعالجة هذه الاشكالات وفق القانون»، ردَّت الحكومة عبر تقرير لوزارة حقوق الانسان وزع الأسبوع الماضي. واذا أهملنا مشكلتي ترويع الناخبين وشراء الأصوات، فإننا نعلم الآن بأن المقترعين دون السن القانونية ما يزالون يتمتعون باقامة آمنة داخل السجل الانتخابي. لكننا لا نعلم مصير الصناديق التي اختطفت من المركز (ط) الدائرة 186، للتمثيل فحسب، تماماً مثلما هو حال ملف قضية الدائرة نفسها الذي على ما يبدو استطاب سكنى أدراج المحكمة العليا منذ عامين تقريباً.
* لئن كان بال اللجنة الطويل قليل الانشغال بتوابع التعداد وأثرها على صدقية السجل، فإن قلبها ميَّال الى مقاربة حذرة لهذه النتائج. فالتحدي الماثل متصل بالتقسيم الانتخابي لا بالسجل الانتخابي.
قسمت اليمن الى دوائر انتخابية خريف 1992. مذَّاك لم يطرأ أي تعديل عليها. وللدقة لم يثر موضوع إعادة النظر في حدودها لكأنما هنالك اتفاق بين أطراف المنظومة السياسية على تأبيدها تفادياً لمضاعفات إعادة هندسة حدودها (الحديث هنا عن الجمهورية اليمنية وليس عن منظمة الوحدة الافريقية!).
صُمِّم التقسيم الحالي للدوائر الانتخابية استناداً الى إسقاطات إحصائية لتعدادي السكان في شمال اليمن (1986) وجنوبه (1988). وأظهرت عملية القيد والتسجيل مطلع 1993 تفاوتاً في أعداد المسجلين بالدوائر الانتخابية ما أنفك يطَّرد حتى الآن. للغرابة فإن اللجان العليا للانتخابات التي تشكلت بعد الانتخابات النيابية الأولى لم تقم بأية جهود لتصويب الأخطاء في التقسيم الراهن، على الرغم من وجود صورة أوضح وأقرب الى الدقة حول توزيع السكان أفرزها تعداد 1994. مع تقلب السنين ترسخت حدود الدوائر بقوة الواقع مكتسبة سطوة يصعب معها المساس بها، على حد تعبير عبده محمد الجندي. كيف نأتي فننسف هذا الواقع بعمره المديد على مستوى الدوائر أو المحافظات؟ سؤال تقريري وجهه إليَّ، لغرض شد انتباهي لا أكثر كيما يطرح تصوره للأمر: التقسيم الحالي يحتاج الى رؤى وتعمق في الدراسة، ويحتاج أيضاً الى مشاركة في الرأي من أعضاء مجلس النواب والهيئات والمنظمات ذات الصلة، لافتاً إلى أن نصيب محافظتي تعز وإب من الدوائر سينخفض لصالح محافظات أخرى كالحديدة والجوف.
إعادة النظر في التقسيم الانتخابي سيثير تعقيدات سياسية واجتماعية شديدة الحساسية، لا جدال. وهو استغرق عديد الشهور قبل اجراء أول انتخابات نيابية. خلال تلك الشهور تفجرت خلافات بين أعضاء اللجنة التي ترأسها القاضي عبدالكريم العرشي وضمت شخصيات سياسية رفيعة في ظرف فريد محكوم من زاوية بالتوازن السياسي بين حزبي السلطة عهدذاك (المؤتمر والاشتراكي) ومن زاوية أخرى بارتفاع درجة التوقعات لدى النخب الحزبية كما لدى الناخبين. بالرغم من كل ذلك، فقد استعرت حروب صغيرة حزبية وقبلية جراء التقسيم، ونحرت مواشٍ في ساحة مقر اللجنة الأسبق (نادي ضباط الشرطة) احتجاجاً على ما يمكن أن نسميه باتفاق سايكس بيكو!
الحق أن التقسيم تم سنتذاك طبق اعتبارات سياسية في المقام الأول جراء الفوران السياسي الذي عمَّ اليمن إثر تحقيق الوحدة واعتماد التعددية الحزبية ركيزة من ركائز النظام السياسي للجمهورية اليمنية. ولقد اتفق «سايكس» و«بيكو» على أن يترك أحدهما المجال للآخر ليتصرف على هواه في رسم دوائر المحافظات الخاضعة لنفوذه، وقد عمل الطرفان باخلاص، وصغائرية أيضاً، على تعظيم نفوذهما بأي ثمن، ولو عبر تقطيع أوصال المحلات والقرى والبوادي في أنحاء البلاد. وهما جدَّا في اصطناع الحدود طبق تفضيلاتهما، فحصدا كلٌ في شطره السابق جميع الدوائر الانتخابية إلاّ قليلاً. ماذا حصد اليمنيون؟ نظاماً انتخابياً جامداً، تقسيماً انتخابياً جذوره ضاربة في مضارب القبلية، وعملية انتخابية عالية الكلفة مالاً وأعصاباً ودماً.
والحال أن كل حديث يجري الآن وبعد 12 سنة من الانتخابات المؤسسة للديمقراطية اليمنية، يبقى مقصوراً على التفاصيل الفنية والاجرائية متقاصراً عن الإرتقاء الى الحلول الابداعية. تصريحات أعضاء اللجنة العليا للانتخابات، على سبيل المثال، تشي بوجود تفاهم بين أعضاء اللجنة على إيلاء الانتخابات الرئاسية والمحلية الاهتمام الأقصى في الشهور المقبلة لأنها «ستجري في إطار ما هو قائم»، وترحيل كابوس تقسيم الدوائر الانتخابية الى ما بعد 2006، ذلك لأنه مرتبط بالانتخابات النيابية التي تبعد عنا أربع سنوات.
* لئن كان السجل الانتخابي لا يشغل البال، وحدود الدوائر الانتخابية نهائية، على الأقل، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية والمحلية، فإن نتائج التعداد قد تحدث تأثيراً طفيفاً على التقسيم داخل الدوائر الانتخابية لأغراض الانتخابات المحلية، كما يرجح الدكتور محمد السياني. لماذا؟ لأن التقسيم داخل الدوائر حديث العهد، إذ جرى عام 2002. وهذه مهمة يسيرة على أية حال، كما يؤكد السياني، لأن القطاع الفني يشتغل على إدخال نظام المعلومات الجغرافية (G.I.S) الذي سيمكن اللجنة من إجراء عملية التعديل واصدار خرائط التقسيم الكترونياً.
* يضم القطاع الفني 45 موظفاً وموظفة موزعين على ثلاث ادارات عامة: الفنية، المعلومات والنظم، التدريب الانتخابي. بعض هؤلاء يعمل منذ عام 1992، وجُلهم يحوز الخبرة الكافية -حسب رئيس القطاع- لأنهم شاركوا في التقسيم الانتخابي (داخل الدوائر) وعملية القيد والتسجيل عام 2002، والانتخابات البرلمانية عام 2003. ويتلقى القطاع برامج دعم خارجية تركز على بناء القدرات الادارية والانتخابية لدى طاقمه، فضلاً عن الدعم الفني لتطوير العمل التقني ومجالات التدريب.
أولويات الطاقم الفني -كما يلخصها السياني- تتمثل في وضع خطة لمراجعة وتحرير جداول الناخبين تحضيراً للانتخابات المحلية والرئاسية في العام المقبل، وإعداد دليل خاص بالانتخابات الرئاسية يكفل عملية انتخاب سليمة تتجنب أخطاء الانتخابات السابقة، والإعداد لتيسير عملية الاقتراع لليمنيين في بلدان الاغتراب، طبق قانون الانتخابات. علماً بأن حق الاقتراع محصور في حاملي البطاقة الانتخابية (أي المقيدين في سجلات الناخبين) ولن يتاح لليمنيين في مواطن الاغتراب التسجيل في مكاتب خارج البلاد. وتقديري أن عدداً محدوداً جداً منهم ستتاح له فرصة المشاركة في اختيار الرئيس المقبل.
 
* يفضلونها مجرورة
أكثر ما يشد الإنتباه في السجل الانتخابي ذاك التطور المتسارع في عدد النساء المسجلات: من 480 ألفاً (1992) إلى 1.2 مليون (1997)، إلى نحو 3.5 مليون (2002). وقد أبلغني سالم الخنبشي -رئىس قطاع الاحصاء في اللجنة العليا للانتخابات- بأنه وزملاءه يتطلعون إلى اجتياز حاجز ال4 ملايين مسجلة بعد مرحلة تحرير ومراجعة الجداول نهاية العام الجاري، فهجس في خاطري النقاء الذكوري الذي سيطبع المجلس النيابي المقبل أخذاً في الاعتبار الإرتباط العكسي بين عدد المسجلات وعدد المرشحات والفائزات في مجلس النواب منذ أولى انتخابات نيابية. (أنظر الجدول).
يعزو الخنبشي التوازن في السجل الانتخابي من حيث الجنس (42% نساء) إلى ارتفاع الوعي الإنتخابي عند المرأة، وإلى «التسهيلات التي وفرناها» كالمراكز الخاصة بقيد المرأة وكاميرات التصوير.
ويعزو تردي تمثيل المرأة في مجلس النواب (0.33%) وفي المجالس المحلية (0.5%) إلى الاحزاب التي تبحث عن المرأة كناخبة وليست كمرشحة.
تقدمت المرأة في المجال الانتخابي كجمهور منذ 1992، وتراجعت كمرشحة ومنتخبة (بالفتح) ومشاركة في إدارة العملية الانتخابية، ومايزال مقعد القانونية راقية حميدان شاغراً بعد 12 عاماً من زوال أولى لجنة انتخابات عليا!
الحديث يتعالى عن مشاركة المرأة بطنان الألفاظ وزخرفها فيما موقعها يتردى ليس في واقع السياسة اليومية وحسب، وإنما، الأنكى والأمض، في ذهنية القيادات السياسية في الحكم والمعارضة، لتبدو لنا المرحلة الانتقالية من حيث نقف الآن «فردوسية» على ما طبعها من توتر وانفعالات وانفجارات قادت إلى حرب مدمرة على مختلف الصعد.
تردي دور المرأة موصول، بعد ذلك، بالمناورات الحزبية الصغيرة، وبالشتات الذهني لدى النخبة السياسية، وبهلامية أغلب المنظمات النسوية، وأخيراً بالأمان تحت مظلة المألوف والتوجس من التجديد.
كذلك فقد سمعت نغمة واحدة بتنويعات عديدة، في أروقة اللجنة العليا للانتخابات: علاج مشكلة تمثيل المرأة متوفر في سوق الأحزاب وليس في مطبخ القانون.
«مطلوب كوتا توافقية لا كوتا قانونية»، يقول د.عبدالمؤمن شجاع الدين رئىس القطاع القانوني في اللجنة، فالأخيرة «تستلزم تعديلاً دستورياً، وقد تخل بمبدأ المساواة». إنْ كان لابد من تعديل قانوني يُكرِّس فرص تمثيل النساء في الهيئات العامة فينبغي التركيز -يذهب شجاع الدين- على قانون الأحزاب الذي يُقرِّر التزامات كل حزب سياسي. وبمعزل عن القوانين -هو يخلص- تستطيع الأحزاب أن توجد كوتا توافقية دون الإخلال بالمساواة بين المواطنين.
القيادات النسوية لأحزاب المؤتمر والاصلاح والاشتراكي أعلنَّ في أغسطس الماضي حزمة مطالب بينها إنشاء دائرة للمرأة في اللجنة العليا للانتخابات وتمثيل عادل للنساء في اللجان الاشرافية والأصلية، وتعديل القانون بما يعطي المرأة مقاعد مخصصة (كوتا)، وشددن على ضرورة اجراء التعديل قبل الانتخابات المحلية (2006)، وتعهدن بالعمل معاً «على رفع وزيادة المشاركة الحقيقية للمرأة في انتخابات المجالس المحلية (...) وهذا بدوره سوف يساعد في بناء قاعدة قوية للنساء وزيادة نسبة تمثيلهن في مجلس النواب».
هذه النبرة النسوية الواثقة والعالية لم نعد نسمعها الآن، وكذلك هي روح الاتحاد التي ما لبثت أن خبت بعيد عودة "الحريم" من قاعة فندق سبأ الذي استضاف جلسة إشهار إعلانهن، إلى بيوت الطاعة الحزبية.
والظاهر أن القطاع النسوي للمؤتمر الشعبي مقتنع بعدم الحاجة إلى تعديل قانوني بعد إعلان المؤتمر الشعبي العام مقترحاً بكوتا توافقية، ملزماً نفسه بكوتا أحادية -وهذه بادرة لافتة بحسب شجاع الدين- عبر عدد صريح من المرشحات في قوائمه الانتخابية (10% للنيابة، 20% للمحليات).
«هذه بادرة ليست خالصة النية»، قالت ناشطة نسوية، مبدية عجبها للمؤتمر المستغني عن آراء الجميع في شتى القضايا لكنه في قضايا المرأة يضع مقترحات بدلاً من تبنيها! معتبرة المسألة مسألة ثقافة وإرادة، وإذا كان المؤتمر جاداً في دعم المرأة «لرأينا تمثيلها في الحكومة ومجلس الشورى (المعيّن) أكبر، وكذا في السلك الديبلوماسي». ثم إنها غصَّت: «كان لدينا سفيرة والآن لا يوجد.. لدينا وزيرة قد يأتي الدور عليها». للتذكير فإن المؤتمر حصد في الانتخابات النيابية الأخيرة (60%) من أصوات الناخبات.
لا يقل القطاع النسوي للإصلاح عن قرينه المزعوم حاكماً، انضباطاً. ولعديد الأسباب فإن انضباط الإصلاحية، في تنفيذ تعاليم الحزب في الحياة السياسية العامة ليست سوى التعبير القشري عن السلطة البطريركية المعززة بجلال الدين في الحياة الداخلية للحزب.
وكنت في فبراير الماضي سألت زميلات من حزب الإصلاح ما إذا كُن سيسعين إلى إدراج مطالبهن التي تضمنها الإعلان المشترك مع قطاعي الاشتراكي والمؤتمر، ضمن جدول أعمال الدورة الثانية لمؤتمر الإصلاح الشهر ذاته، فتناهى الى أسماعي ما يشبه الأنين المخنوق وراء صيغ مكرورة في أحاديث من هذا النوع، كالقول مثلاً بأن جدول أعمال المؤتمر محدد سلفاً من شيوخنا الأجلاء.
وكانت ممثلة الإصلاح في لقاء إشهار المطالب سُئلت -بحسب رواية ناشطة نسوية- ما إذا كان موقفها مقبولاً من قادة الحزب، فردت: نحن لا نعلن موقفاً قبل مراجعته (من هيئاتنا القيادية). وكان أن جاء بيان مؤتمر الإصلاح خلواً من أية إشارة لتلك المطالب المراجعة والمزكاة من القيادات العليا. بيد أن ناشطة اصلاحية ذكرت لـ«النداء» أن مطالب المرأة طرحت في مؤتمر الإصلاح، وقد حظيت بتفهم وعناية في النقاشات، وإن لم تظهر في البيان. وأخشى أن يكون قولها مجرد تجل لحمية حزبية وعصبية جاهلية!
يلوح الاشتراكي نظرياً متقدماً بفارق كبير، وهو قلَّما تصدر في العقد الأخير. في ورقة مقترحاته الخاصة بتعديل قانون الانتخابات والمقدمة الى اللجنة العليا للإنتخابات ومنظمة «الآيفس» المشتغلة على النظم الانتخابية، يدعو إلى تمثيل المرأة في اللجنة العليا للإنتخابات، على الأقل بواحدة تملأ مقعد السيدة راقية حميدان الشاغر منذ 12 سنة. ويتجاوب الأشتراكي مع مطلب قطاعه النسوي (وقطاعي الحزبين الأخرين) بتمثيل عادل للنساء في اللجان الاشرافية والأصلية، مقترحاً نسبة 40% للنساء، ويذهب إلى الزام كل حزب بتخصيص 10% من قائمة مرشحيه إلى مجلس النواب للنساء، بحيث يردن في مواقع تحتمل الفوز.
موقف الاشتراكي، كما نرى، ينسجم وتراثه الفكري والسياسي، أقول تراثه لأن حالة الدوار التي يعيشها الحزب منذ 1994، وما يرافقها من حيرة وتردد وصدمات وارتطامات أنسته ميزاته و(ما يمكن أن توصف ب) مفاخره، وفي الصدارة المكاسب التي تحققت للمرأة. وفي انتخابات 2003، سمَّى الحزب في دائرة خور مكسر (عدن) أحد كوادره الشباب في مواجهة عضوة المكتب السياسي رضية شمشير. سقطت شمشير وسقط رفيقها المنافس، وفازت أوراس مرشحة المؤتمر الشعبي. مذّاك يكابد الاشتراكي الصداع جراء الصدع في مصداقيته الناجم عن تلك الواقعة المخزية التي تصلح مادة تطبيقية في درس حول خيانة السياسي اليومي لقضاياه الاجتماعية والوطنية.
* مكانة المرأة محفوظة، كما نرى، في موقع رفيع في عالم التصورات المستقبلية. وكذلك هو حالها في اللجنة العليا للانتخابات. «أقررنا من حيث المبدأ وجود إدارة عامة للمرأة في هيكلية اللجنة»، قال لـ«النداء» سالم الخنبشي بنبرة تنم عن رضا محمولة على بريق إنجاز! قبل أن يردف واضعاً لمسته الشخصية: «سيكون من الأفضل وجود قطاع للمرأة في اللجنة». وزاد: «نسعى إلى خلق أوثق العلاقات بالمنظمات النسوية، (تعبيراً) عن اهتمامنا بقضايا الشأن الانتخابي للمرأة».
بواسطة عدسة مجمعة نطل خلالها على المشهد برمته، نجد المرأة محشورة في منطقة ارتطام ثلاث كتل رجولية - إن جاز التعبير. وهي إنْ لاحت مجرد مسحوق لتجميل جفون الحكومة المتهدلة لزوم مغازلة الخارج، ومحض صوت انتخابي في الذهنية الحزبية السائدة كون قيس اليماني مولعاً فقط بـ«ليلى» المنتخِبة (لأنها مجرورة!)، فقد بدت لي كائناً أسطورياً رائعاً لفحتني أنفاسه أثناء تجوالي في أروقة اللجنة العليا للانتخابات!
 
* النظام وعوائده والكنز المخبوء!
بإستثناء الحزب الاشتراكي الذي يدعو إلى تغيير النظام الانتخابي من نظام الأغلبية النسبية (دائرة صغيرة فردية) إلى نظام التمثيل النسبي (دائرة كبيرة، قائمة) تظهر الأحزاب الأخرى تآلفاً مع النظام الراهن على الرغم من أنه يدر عوائده على شريك واحد فقط هو المؤتمر الشعبي العام، ما يشي بأن لدى باقي الأحزاب كنزاً مخبوءاً يعوِّض عليها شحة العائد،يدعونه القناعة!
يقود نظام الأغلبية النسبية نظرياً إلى حياة سياسية مقوطبة، عمادها حزبان قريبان من الوسط يهيمنان على المجالس التمثيلية كافة، كما في بريطانيا وأمريكا، يتقاسمان مقاعدها، ويتناوبان على مقعد الأغلبية فيها كل دورة أو دورتين أو ثلاث. بينما يؤدي النظام الآخر (التمثيل النسبي) إلى مجالس تمثيلية متعددة الأقطاب تفرض على الأحزاب الكبرى تشكيل حكومات ائتلافية بالاستعانة بالأحزاب المتوسطة والصغيرة، كما في اسرائيل.
واقع التجربة اليمنية لا ينطبق تماماً على النظرية. فلئن أفرزت انتخابات عام 1993 برلماناً فيه ثلاث قوى كبيرة (المؤتمر، الاشتراكي، الاصلاح) فإن الانتخابات النيابية التالية (1997) التي قاطعها الاشتراكي، أفرزت برلماناً من قوة كاسحة (المؤتمر 75%) وقوة متوسطة (الاصلاح 20%). وواصل الاتجاه العام مساره في الانتخابات النيابية الأخيرة (2003)، فحصد المؤتمر أربعة أخماس المجلس (80%) تاركاً الخمس الأخير للأحزاب القنوعة!
في الموازاة، تراجع عدد الاحزاب الممثلة في المجلس من ثمانية أحزاب إلى خمسة، وبدلاً من أن يتنامى تمثيل المرأة في مجلس النواب تمشياً مع مستلزمات التحول الديمقراطي وترتيباً على تضاعف عدد الناخبات سبع مرات منذ 1992، تراجع إلى النصف.
ومٌذ ازداد التنافس على الدوائر حدة من موسم انتخابي إلى أخر، اكتسبت الانتخابات طابع المواجهة المصيرية بين المتنافسين حد تحول صناديق الاقتراع، في بعض الحالات، إلى صناديق ذخيرة، ومراكز الاقتراع إلى سرادق عزاء.
ولما كانت الأغلبية المريحة، فالكاسحة، مؤمَّنة في قبضة السلطة، بفعل ديناميات النظام الانتخابي متظافرة مع انعدام التكافؤ، فقد اتخذت الانتخابات النيابية الأخيرة ملمحاً تأديبياً في دوائر بعينها قرر فيها الطرف الأقوى، سلفاً وبصرف النظر عن «صوت الجماهير»، إسقاط ممثليها عقاباً على ما قدموه لأنفسهم خلال أدائهم البرلماني والسياسي.
وعلى الجملة فإن النظام الانتخابي إذ ساهم في زيادة غلة المؤتمر الشعبي من الدوائر، أصاب الحياة السياسية بالشيخوخة المبكرة، وأضعف، دورة تلو أخرى، عامل تمثيل الانتخابات لإراداة الناخبين، ما خفف من الوزن النسبي -الخفيف أصلاً- للسلطة التشريعية في النظام السياسي، مسبباً تأكلاً متسارعاً في مصداقية العملية الانتخابية كمدخل للتغيير السلمي الديمقراطي. وعندما تٌختزل الديمقراطية إلى انتخابات قبلوية الأحكام، تتعطل وظائف النظام السياسي وتنسد شرايينه وتكف الأحزاب عن تجسيد وظائفها السياسية وأهمها استيعاب وتمثل مطالب واحتياجات الفئات والشرائح الاجتماعية. والبديل؟ انتعاش العصبيات ما قبل الوطنية وتقدمها لملء الفراغ. كذلك فإن تشكيلة الحكومة الحالية وحروب الصغار داخل الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم وأحداث صعدة، منظوراً إليها من هذه الزاوية، تبديات ساطعة لأزمة نظام، انتخابي وسياسي!
يرتبط تمثيل المرأة والأحزاب عضوياً بالنظام الانتخابي، والموضوعان محكومان بالثقافة السياسية السائدة وبالتوقعات الانتخابية لكل حزب على حدة، وهي جميعاً تصلح لتوظيفها في تحليل مواقف الأطراف المعنية من قانون الانتخابات.
نظام الأغلبية النسبية بأسلوب الدائرة الفردية المعمول به في اليمن منذ ما قبل الوحدة ينتهي إلى نظام سياسي قائم على قطبية ثنائية، وبالتالي فإن الحزبين الكبيرين الأقوى تنظيماً والأكثر تصالحاً مع القيم السياسية الراهنة يحققان عبره أغراضهما. كذلك هو موقف المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح. والأخير يجد في استمرار اعتماد هذا النظام ما يعفيه من الاستجابة لتحدي تمثيل المرأة في قوائمة الانتخابية.
في المقابل فإن الحزب الاشتراكي اليمني الذي يكابد ضعف الامكانات ووهن الأداة التنظيمية، يجد في نظام التمثيل النسبي (القائمة) بغيته لتحقيق صيغة سياسية وطنية يتمتع فيها بموقع القطب الثالث الذي يجذب إلى مجاله أحزاباً سياسية متوسطة وصغيرة قريبه منه.
وبالنسبة للمرأة فإن نظام التمثيل النسبي يضمن لها حضوراً فاعلاً في الهيئات المنتخبة (والبرلمان في الصدراة) في حال فرضت شروطها على الهيئات الحزبية عند تصميم قوائم المرشحين.
الحديث عن تغيير النظام الانتخابي ما يزال يجري في حقل الأمنيات. ولايظهر أن حزباً من الأحزاب اشتغل جدياً على هذا الموضوع. وحتى الحزب الاشتراكي الذي يتبنى نظام التمثيل النسبي. لم يبذل أية جهود لتسويغ الفكرة لدى حلفائه في اللقاء المشترك، ربما لأنه مسكون بيقين الخسران.
لا حديث عن تغيير النظام يجرى في الضفة الأخرى، حيث يربض المؤتمر الشعبي العام حارساً «مكتسباته الديمقراطية» وفي مقدمتها أربعة أخماس مقاعد مجلس النواب. وللدقة يمكن رصد تصريح يتيم للرئيس علي عبدالله صالح أطلقه عقب الأستفتاء على تعديلات دستورية 2001 وردت فيه اشارة إلى إمكان التفكير في اتباع نظام التمثيل النسبي.
عدا ذلك قد يتذكر البعض مبادرة لمحمد عبدالمجيد القباطي رئيس الدائرة السياسية للمؤتمر الشعبي العام السابق قبل ثلاثة أعوام، يقترح فيها الأخذ بالنظام المختلط. ولعله من موقعه الحالي في بيروت حيث الجدل صاخب حول قانون الانتخابات يطور مبادرته مستفيداً من فكرة التمثيل النسبي على أساس الدائرة المتوسطة (المحافظة) التي تتبناها الكتلة الثالثة بزعامة سليم الحص. لعله يفعل! ولعلي أستطرد هنا لافتاً إلى سؤال وجهه إلىٌ خبير غربي قريب من النخب السياسية في الحكم والمعارضة، أنطوى على غمز من جدية الدكتور القباطي سنتئذ في طرق الموضوع... لم أجد مناصاً من القول، معتبراً بالخواتيم، بأنه كان يعبر عن محض وجهة نظر شخصية.
أيهما أصلح لليمن: أغلبية نسبية أم تمثيل نسبي؟ الأمر نسبي على ما يقول الدكتور عبد المؤمن شجاع الدين رئيس القطاع القانوني في اللجنة العليا للانتخابات، فالنظام الانتخابي كما النبته «لا تنمو إلا في واقع سياسي واجتماعي ملائم» وإذا أرادت جهة محمولة بحسن النية أن ترتقي بالنظام فعليها أن تنطلق من واقعنا.
النظام الحالي صار راسخاً -يقول شجاع الدين- ألفه المواطن منذ الستينات وكل القوانين والتعديلات عليها تمت في إطاره.
ماذا عن نظام التمثيل النسبي؟ يٌمهد رئيس القطاع القانوني في اللجنة لرأيه بالاشارة إلى كون هذا النظام يسهل كثيراً من عمل اللجنة، قبل أن يقطع بأنه لايفيد الدول حديثة العهد بالممارسة الديمقراطية، ومن شأنه أن «يذكي النعرات المناطقية والعشائرية» لأن الموطن الانتخابي يتجرد من قيمته المدنية الاندماجية مادام بوسع الناخب تجاوز حدود دائرته الانتخابية.
إذا كان النظام الحالي مألوفاً لليمنيين، حسب رئيس القطاع القانوني، فإن رأيه في نظام التمثيل النسبي خارج المألوف. فالفكرة النمطية عن هذا النظام أنه يجعل من البرامج السياسية والانتخابية للأحزاب الدليل الذي يهتدي به الناخب عند ذهابه إلى مركز الاقتراع. وهو بالتالي يعظِّم من أثر الدافع السياسي على حساب الدوافع الأسرية والعشائرية والقبلية والمناطقية. وهو في محصلته النهائية يعضِّد من فاعلية الأحزاب في الحياة السياسية، ويكفل تشكل خارطة حزبية في الهيئات المنتخبة تمثل تفضيلات الناخبين، وتفسح لأطراف المنظومة السياسية صالات اجتماعات لإدارة حواراتهم وأزماتهم «بأسلوب حضاري» بدلاً من حوارات الطرشان الراهنة أو حملات القوة العمياء التي لا تجد من يردعها داخل مؤسسات الدولة.
يتطلب نظام التمثيل النسبي -وهذا مأخذ أورده عليه د. شجاع الدين- مجتمعاً مستقراً سياسياً واجتماعياً، أو يعيش في إطار عدائي (كما في اسرائيل). ويتطلب ثانياً، وعياً سياسياً متقدماً لدى جمهور الناخبين. ويتطلب، ثالثاً وأساساً، أحزاباً مدنية ديمقراطية تتمتع بقاعدة انتخابية منتشرة في مختلف المحافظات. وهذه متطلبات لا يراها عديدون متوفرة في اليمن.
علاوة على غياب المتطلبات، يوجد عديد المحاذير من اعتماد هذاالنظام، أبرزها محذور تدني نسبة المشاركة في انتخابات ذات طابع حزبي طاغ، في مجتمع يتراجع فيه عامل التفضيل الحزبي في عدد من مناطقه إلى المرتبة الثانية.
ويبقى أخيراً أن تغيير النظام الانتخابي وإدراج «كوتا» قانونية للنساء في مجلس النواب، يستلزم تعديلاً دستورياً يلغي المادة(63) التي تنص على تقسيم اليمن إلى (301) دائرة (....) ينتخب عن كل دائرة عضو واحد. علماً بأن تعديل هذه المادة يستوجب عرضها على الشعب للاستفتاء بعد موافقة ثلاثة أرباع المجلس.
وإذاً فإن تعديل النظام الانتخابي يستوجب تعديلاً دستورياً، وهذا يتطلب استفتاء الشعب عليه، لذلك فقد انصرف جهد الأحزاب واللجنة العليا للانتخابات بالتعاون مع منظمة «آيفس» في تطوير القانون إلى الاجراءات الفنية، لا إلى الحلول الإبداعية. وتتضمن توصيات «آيفس» نقاطاً جوهرية تتصل بالتقسيم الانتخابي ومشاركة المرأة في إدارة العمليةالانتخابية، والموطن الانتخابي، والتوصية المهمة هناهي عدم اعتبار مقر العمل موطناً انتخابياً (هذه أحد مطالب الاشتراكي الآن، علماً بأنه قاومها بشدة أثناء مشاركته في السلطة مطلع التسعينات متكئاً على ثقله داخل القوات المسلحة!).
أياً ما كان الأمر فإننا نجد نظاماً انتخابياً مألوفاً أفرز مجالس نيابة لا تمثل بدقة الهيئة الناخبة، وتراجع فيها عدد الأحزاب الممثلة إلى خمسة، وبدلاً من أن يُطوِّر النظام السياسي بإتجاه القطبين، آل إلى مايشبه نظام الحزب الغالب (المسيطر) ما أدى إلى خفض وزن السلطة التشريعية. وفي حين زاد عدد الناخبات سبع مرات، انحسر وجودهن بحدة في قوائم المرشحين وانحصر تمثيلهن في نائبة واحدة.
في المشهد لا تظهر أحزاب اللقاءالمشترك متشاركة في تصوراتها لتطوير القانون وإصلاح النظام الانتخابي. وأبعد من ذلك نسي حزبا الإصلاح والاشتراكي شركاءهما وذهبا إلى «أيفس» و«اللجنة العليا للإنتخابات» بورقتين متناهضتين. وإني لأعجب من تشدد قادة هذه الأحزاب في دعوتها المؤتمر الشعبي العام إلى التعامل معها باعتبارها كتلة واحدة بالرغم من أن قلوبهم شتى، أم تراهم يتشبثون بالدخول إلى قاعة الحوار من باب واحد لكيما يغادرون، كالعادة، من أبواب متفرقة؟
 
* الرئيس.. الشيخ.. وحالة "اللايقين"
بعد 15 سنة من الممارسة الديمقراطية، فإن الخبرة التي تراكمت لدى النخب السياسية في الحكم والمعارضة هي «الخوف من الديمقراطية».
وبعد 15 شهراً من الآن ستجرى ثاني انتخابات رئاسية في الجمهورية اليمنية، وفيما عدا تحكم طرفين اجرائياً بسيرها فإن الأمور ما عادت هي وقت جرت الانتخابات الأولى.
اجرائياً يتحكم المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للاصلاح بتقرير تنافسية هذه الانتخابات من عدمها. الأول بقبول إخضاع الموقع التنفيذي الأول للتنافس الحقيقي، والآخر بتقديم مرشح منافس من حزبه أو من المعارضة مجتمعة، أو على الأقل بتزكية مرشح المعارضة في الاجتماع المشترك لمجلسي النواب والشورى.
موضوعياً فإن في وسع أحزاب اللقاء المشترك تحويل الانتخابات الرئاسية إلى «محطة تزويد وقود»، في رحلة التحول الديمقراطي الشاقة، إما بالعمل من أجل أن تكون مدخلاً للاصلاح السياسي، أو بأن يكون هذا الأخير مدخلاً إليها.. إما أن تتفق على برنامج الحد الأدنى ليكون برنامج مرشحها إلى الرئاسة، أو تثمير مناخ المبادرات الدولية الخاصة بالإقليم وما يصفه البعض بربيع الديمقراطية العربية، وصوغ مشروعها هي للاصلاح السياسي ليكون مدخلها إلى الرئاسة.
في الحالتين يمثل التحرر من الخوف الشرط اللازم لاجراء الانتخابات الرئاسية في أجواء مواتية، فلا تكون «عرساً» ولا «مأتما» ديمقراطياً!
ان لم تكن الانتخابات الرئاسية محطة تزود بالوقود الديمقراطي، فلن تكون سوى الهاوية يتجه صوبها الجميع، حكاماً ومعارضين، وهم يتوهمون أنهم يتفادونها، بالتجاهل تارة وبالتعامي تارةً أخرى.
أجريت الانتخابات الرئاسية السابقة (سبتمبر1999) في أجواء قلق دفعت الحكم في اللحظة الأخيرة إلى حجب التزكية عن مرشح المعارضة، ولا شيء يدعو إلى الشك في أن تجرى الانتخابات المقبلة في ظل هيمنة حالة «اللايقين»، ما قد يشجع الأطراف المعنية على الاقدام على مغامرات متى غامت المسؤوليات ولم تجدِ المساومات.
حالة اللا يقين الراهنة ناتج جملة معطيات محلية واقليمية ودولية طرأت مؤخراً وما تزال مفاعيلها مستمرة وتأثيراتها نافذة حتى إنْ غاب الحس السليم بها لدى النخب الحاكمة والمعارضة في المنطقة.
في الانتخابات الرئاسية السابقة كان الاصلاح ما يزال يمارس هوايته المعروفة: الفصل الاستراتيجي بين الرئيس علي عبد الله صالح وحزبه، معلياً من مكانة الأول ومبخساً من قدر الثاني وجدارته في تلميع الكرسي الرئاسي. وقد آل الحال إلى حسن المآل، فكان الرئيس علي عبدالله صالح مرشح الاصلاح إلى الرئاسة قبل أن يكون مرشح المؤتمر.
يبدو الاصلاح الآن فاقداً ملكة التمييز بين الرئيس وحزب الرئيس بفعل ديناميات النظام الانتخابي التي حددت إقامة الاصلاح عام 2003 كحزب متوسط الثقل، وبفضل تراجع ضغط العلاقة المميزة بين الرئيس صالح والشيخ الأحمر، بسبب تحولات شتى تندرج ضمن مخطط إعادة توزيع الأثقال النسبية داخل الحكم دشن أواخر العقد الفائت.
وها إن الاصلاح أضحى مكشوفاً أكثر مما تصور قياديوه، تحت «الشمس الحارقة» التي اختارها رمزاً انتخابياً له عوض هلال أتاح له في ما مضى نسج خيوط غير مرئية بكافة مؤسسات القوة في الوقت ذاته الذي كان يتصدر المعارضة في الشارع العام. فإذا به في اللحظة الراهنة عرضة لضربة شمسه هو، بدلاً من مزاحمة (المؤتمر) على قلب الرئيس. وإذا هو مدفوعاً إلى الاقتراب، وئيداً ولكن أكيداً، من معارضي الرئيس، متوسلاً بالموازاة مظلة دولية تقيه هجير الشمس الحارقة، مؤملاً بنجاعة منهج «عدم الاستقرار البناء» الذي يتخذه راسمو السياسة المحافظون في البيت الأبيض، هادياً في مقارباتهم شؤون المنطقة العربية، وما يفرزه هذا المنهج من سياسات تصب افتراضياً في خانة «الاسلام المعتدل».
كذلك فإن التنائي الاصلاحي مع الرئيس يقابله التداني مع معارضي الداخل، والتفاني في تكييف الذات مع الخارج. وبدلاً من التباهي باستراتيجية التحالف مع الرئيس التي ضجت أسماعنا قبل الانتخابات الرئاسية السابقة وبعدها، لم نعد نسمع الآن من الاصلاحيين إلا نغمة معارضة حادة تطال أحياناً الموقع التنفيذي الأول، وإلا فعتاب مغموس بالمرارة في تصريحات الشيخ الأحمر، وإلا فإشارات مغلفة بنكهة المناكفة تصدر من محمد قحطان رئيس الدائرة السياسية، دون أن يزجره شيوخ الحزب كما كان الحال في ما مضى، تفيد بعزم الاصلاح الذهاب بعيداً في تعاطيه مع الاستحقاق الانتخابي المقبل، كقوله بنبرة يقينية لصحيفة «الخليج» الاماراتية إن الاصلاح لن يخوض الانتخابات الرئاسية إلا بالتنسيق الكامل مع شركائه في اللقاء المشترك، وإحيائه في الحديث نفسه، الجدل حول أحقية الرئيس في الترشيح مجدداً بإعتبار أن دورته الحالية هي الثانية، رغماً عن التعديلات الدستورية التي تتضمن مادة تنص صراحة على اعتبار الدورة الحالية للرئيس أولى.
إلى الاصلاح الذي فقد ملكة التمييز، اكتست مناطق أخرى في قاعدة الحكم باللون الرمادي بعدما كانت في الانتخابات السالفة ناصعة البياض بفضل حالة الصفاء الذي اتخذته في الرئاسية حيث المؤتمر مع خصوم الاشتراكي في مواجهة الاشتراكي، وفي الانتخابات النيابية حيث المؤتمر مع خصوم الاصلاح في مواجهة الاصلاح. والثابت أن صفو التحالف الاول تعكر أثناء مخاض التشكيل الحكومي الراهن وبعده، وصولاً إلى لجوء السفير الحسني إلى لندن الأسبوع الفائت. ولم يتعكر صفو التحالف الآخر فحسب، بل يكاد يتقوض بتوابع الحربين الأولى والثانية في صعدة.
فضلاً عن تقلبات الداخل، تجيء تحولات الخارج لتعزز من حالة اللايقين. فالأنظمة العربية تعيش في وضعية انكشاف منذ أحداث 11 سبتمبر، وما تلاها من حروب استباقية في المنطقة، أدت إلى احتلال العراق لتمسي الولايات المتحدة دولة شرق أوسطية، تريد من حلفائها في الحرب على الارهاب أن يكيفوا جيوشهم ومؤسساتهم الأمنية للعب دور واحد فقط هو دور حرس الحدود والطرقات كيما تعبر اساطيلها وبوارجها في سلام بعيداً عن تشويش العدو العلني: الإرهاب.
وإذن، فإن منهج «عدم الاستقرار البناء» يضع الأنظمة موضع السخط واللوم، بعد طول إقامة في حصن «الحلفاء التقليديين» الذي وفرته الادارات الامريكية المتعاقبة منذ الاربعينيات لحكام المنطقة. ومن دون الإيغال في التبشير بفاعلية حرب «كسب القلوب العربية» يؤكد الوضع الماثل أن الأنظمة الحاكمة تواجه موجة ضغط امريكي وغربي متعالية يلزمها الحس السليم بالمسارعة إلى الاصلاح تنفيساً لاحتقانات الداخل وامتصاصاً لضغوط الخارج.
نقطة الانطلاق في ملء خزانات الديمقراطية الفارغة بالوقود، تكون بالكف عن خوض الاستحقاقات الانتخابية بمنطق «التنازل عن شيء تنازل عن كل شيء»، ما سيمثل مدخلاً إلى حوار بناء بين أطراف المنظومة السياسية حول أولويات الاصلاح السياسي، أخذاً في الاعتبار أن مواصلة لعب السياسة بأسلوب المباريات الصفرية لا يتيح مجالاً لابرام صفقات من ذلك النوع الذي عرضه الزميل علي الجرادي في مقاله المنشور في عدد «النداء» السادس (20/4/2005) وفيه إيماءة إلى اصلاح سياسي تدرجي يفصل تدريجياً رأس البلاد عن جسم السلطة التنفيذية، أو بتعبير الجرادي يتيح تداولاً سلمياً للحكومة.
*
 
- نشر هذا التحقيق على أربع حلقات في صحيفة النداء في الأعداد  " 4 "،  " 6 " ،  " 7 " ، " 8 "