المختطفون والمعتقلون.. «وما خفي كان أعظم»

المختطفون والمعتقلون.. «وما خفي كان أعظم» - عبدالباري طاهر

 أفرجت السلطات اليمنية عن زعماء الحراك الجنوبي الذين اختطفوا بصورة أقرب للأسر من ميادين الاحتجاجات السلمية.
في البدء جرى إخفاء هؤلاء المخطوفين، ولم يعرف أحد، حتى أسرهم، أماكن «الاخفاء القسري»، فكانوا مخطوفين ثم مخفيين.
كان منهم زعماء سياسيون: حسن باعوم، علي منصر، يحيى غالب «المحامي»، واحمد عمر بن فريد الكاتب والصحفي، وعلي هيثم الغريب المحامي والكاتب، وعشرات غيرهم.
بديهي أن الاختطاف والاخفاء القسري جريمة بكل المقاييس، وفي كل القوانين والتشريعات، قومية كانت أم دولية.
بعد مضي عدة أسابيع من الاخفاء القسري قدموا للمحاكمة أمام محكمة خاصة، وصرخوا في وجه القاضي: أخرجونا إلى الأرض إذا أردتم محاكمتنا، نحن في زنازن تحت الأرض».
طالب محاميهم بالافراج عنهم باعتبار أن كل اجراءات القبض عليهم باطلة وقد امضوا في الاختفاء القسري عدة أسابيع.
منذ البدء عوملوا كمجرمين. في كل الملل والنحل، وفي التشريعات والقوانين الوطنية والدولية «المتهم برئ حتى تثبت ادانته»، الا في اليمن فإن «المتّهم مدان سلفاً» فالاختطاف والاخفاء والتعذيب والحرمان من أبسط الحقوق أمر مألوف وعادي.
لم يهتم القاضي بشكوى عدم سلامة الاجراءات، وبحقهم في الاحتجاج المدني المكفول بالدستور والقوانين.
في البدء اتخذ أمر الافراج عنهم شكل المقايضة السياسية: الافراج مقابل تسمية ممثلي المشترك في اللجنة العليا للانتخابات، والقبول بالتعديلات في قانون الانتخابات وفق رؤية حرب الحكم.
أخيراً أقرت أغلبية النواب في المؤتمر الشعبي أو بالاحرى اسقطت التعديلات الشكلية. ورسخت اللجنة القديمة الجديدة للانتخابات.
وجرى الافراج عن قادة الحراك الجنوبي (المخطوفين) كمكرمة رئاسية بمناسبة رمضان. كانت التهم الموجهة لكل واحد منهم تكفي الواحدة منها للاعدام: الدعوة للانفصال، تهديد الوحدة الوطنية، إثارة النعرات، التحريض على الفتنة ممارسة العنف والارهاب... الخ. وفجأة عفا الله عما سلف ولا استقلال قضاء ولا هم يحزنون الاغرب من العفو الدراماتيكي الاشادة بهذا العفو، لكأن عدم التنكيل بالضحايا إلى النهاية عمل انساني يستحق الحاكم عليه الشكر والاعتراف بالجميل.
يخالف الحاكم الدستور، ويخترق القوانين النافذة، ولا يراعي الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهود والمواثيق الموقع عليها.
يعتقد، وليس معه أي حق أن من حقه أن يوجه التهم جزافاً لمواطنيه (الضحايا)، وأن من حقه الاختطاف والاغتيال والاخفاء والتعذيب، ويتخذ من القضاء غير النزيه وغير المستقل أداة نكال وارهاب وانتقام.
(لك الحمد، أما ما نريد فلا نرى، ونسمع ما لا نشتهي، فلك الحمد). وتختتم الكوميديا السوداء بطلب الضحايا بالتعهد بحسن السيرة والسلوك وعدم التدخل فيما لا يعني، والتقيد والالتزام بالدستور والقوانين التي لم يلتزم بها الحاكم في أي شأن ويحولها اداة قمع شامل.
حرب صعدة المتناسلة لها منطقها الخاص وضحاياها الكاثرة، فالحكم هو الذي يعلن الحرب وهو الذي يعلن الانتهاء.
يتكرر الاعلان الفاجع والمباغت: المعتقلون من أسرى الحرب موزعون على أكثر من محافظة، فسجون صنعاء وصعدة وحجة والحديدة، وربما محافظات أخرى، مكتظة بهؤلاء الضحايا لشهور واعوام دون محاكمات.
في صنعاء جرى اعتقال العديد من الشباب وبعض الشيوخ، ومنهم العلامة محمد مفتاح والصحفي القدير عبدالكريم الخيواني وعشرات غيرهم، وجرى اخفاء مفتاح ولؤي المؤيد ومعين المتوكل، ويقال إن البعض منهم قد تعرض للتعذيب، والاخفاء القسري البشع عقدين، ومنع الزيارة تعذيب، والسجن بدون محاكمة. وقبل الحكم النافذ والبات تعذيب أي تعذيب! لم توجه للعلامة مفتاح أي تهمة، وربما أن ذنبه الحقيقي أنه رئيس لشورى حزب الحق، وأنه يدين التعامل الطائفي والسلالي في الحياة السياسية. وكان الاعتداء عليه قاسياً وبالغ الجور. ولايزال العشرات والمئات وربما الآلاف من «الحوثيين» كما يطلق عليها معتقلين، وبعضهم مخفيين، وهناك خشية على حياة البعض منهم. ضحايا الحرب شبه مسكوت عنهم. والمشترك وتحديداً الطرف الاقوى فيه اقل حماساً للدفاع عنهم للاسف الشديد لأسباب عقيدية وسياسية.
في التيار السلفي من يرى أنه ليس لله من حكمة من خلق البشر الامن أجل الملك «ظل الله في الارض» والرعية «معيز الدولة» في منطق شيخ القبيلة، ولا عزاء للحوثيين؛ السجون اليمنية أشبه بجهنم «وان منكم الا واردها» سجناء أحداث معسرون. أصحاب منازعات وقضايا ومخالفات وسجناء الرأي والمحتجون، وبالمناسبة فإن السجناء في الجنوب لم يفرج عن الكثيرين منهم.
«العفو العام» عن الضحايا لم يشمل اثنين من العناوين الكبيرة المفترى عليها فهد القرني الفنان الشعبي الرائع وعبدالكريم الخيواني الصحفي الشجاع. الاول طلبوا منه تعهداً، وتعهد فنان يعني فيما يعني تحريم الغناء.
والمنع من الاقتراب من أوجاع الناس ومعاناتهم التي يسببها الحاكم. ولا يقف الامر عند هذا الحد، مسؤول النيابة يصفه بـ«الدوشنة»، والوصف «الدوشان» من قاض من القضاة شاهد أن التمييز في اليمن يمارسه القضاء النزيه اللفؤ والمستقل (وكأن التمييز مشرعن).
ان الانتقاص من «الدوشان» واعتباره نقيصة وسبة في عقل القاضي معيب، ويعاقب عليه القانون لو صدر من مواطن (أي مواطن) لكن أن يصدر من ممثل النيابة فهي فاجعة.
 وأما عبدالكريم الخيواني فقصته قصة. مأساة هذا الصحفي أنه من أوائل إن لم يكن أول من أشار بأصابع ضوئية إلى مكمن الداء. فقد فضح نهج الفساد المستشري في الحكم، واشار إلى أن ورقة التوت لم تعد تستر ما تحتها.
إشارته للتوريث، ولجرائم الحرب أكدت الايام صدقها وخطورتها، فعوقب بالعذاب الذي توعد النبي سليمان «الهدهد». (لأعذبنه عذاباً شديداً) الخ الآية.
ومن يومها وعينك ما تشوف الا النور، فقد اختطف أكثر من مرة، واعتدي عليه بالضرب، وحاولوا تكسير أصابعه (الضوئية) التي أشارت باكرا إلى الحال الذي نحن فيه.
أبناء المشايخ الآن يحكمون القبضة على عموم وكلاء المحافظات، وبعضهم محافظون وهم مواطنون حقاً، وقد يكونون اكفاء، ولكن لا يعني أن تكون شيخاً أو ابن شيخ لتكون وكيل محافظة، علماً بأن للشيخ وظيفة اجتماعية قد تكون أهم من وكيل المحافظة أو المحافظ أو الوزارة، لكن نهج التوريث الذي يحول الدولة إلى «ماركة مسجلة»، وملكية خاصة لا علاقة لها بالمواطنة والكفاءة والتخصص، أو الدستور والقانون.
قبل عدة أشهر اختطف عبدالكريم في آخر اختطاف واعتدي عليه بالضرب. ثم جرى الهجوم على منزله ظهراً واقتيد إلى النيابة ليتهم بالاشتراك في خلية أرهابية، وحوكم الصحفي على الادوات الصحفية (السيدي والصور والمقالات) وكأنها عدة حرب أو سلاح دوار، وجرى (عيني عينك) تدخل لاحق في صيغة الحكم.
كعرب، حكاماً ومحكومين عجزنا عن توفير العدالة لأنفسنا، وهو ما فتح ويفتح الباب أمام «عدالة الاجنبي». عجز عنها صدام في العراق، فكانت الكارثة تدمير العراق، واحتلاله ونهب ثرواته، ونعجز عنها في السودان، وفي فلسطين المحتلة، وفي مصر وفي أكثر من بلد عربي بما في ذلك اليمن.
فالجنوبي الذي يحتج على نهب أرض «انفصالي»، وابن صعدة الذي يدافع عن معتقده الديني «إمامي وعميل»، أما تهامة فلا حسب ولا نسب كمقولة الشهيد الرائع محمد احمد نعمان.
ايها الحكام! ماذا فعلتم بنا؟ ماذا فعلتم بشعوبكم؟ أضعفتم حب الاوطان في قلوب الناس، وجعلتم خيار الاجنبي هو الارحم! تتعامل «الدولة» اليمنية مع شعبها كفريسة، والمحزن أن يوظف القضاء أو يستخدم كاداة قمع ضد خصوم سياسيين أو شخصيين.
عدم الافراج عن الخيواني والقرني يعطي للامر بعداً غاية في الشخصنة، وأن تكون الدولة بجيشها وأمنها وحزبها وقضائه في مواجهة القرني والخيواني فعمل سيريالي وعبثي بامتياز.
ولا أعتقد أن دولتنا، حماها الله من الهشاشة والضعف حد الذعر من أغنية شعبية للقرني أو مقالات ناقدة للخيواني. نقول للحاكمين مخلصين: إن الظلم الذي يمس إنساناً يمس الأمة كلها، والانتقام والثار الشخصي لا يليق بالانسان، أي إنسان، فما بالكم اذا كان في موقع صنع القرار!؟
وندعو صادقين مؤسسات مجتمعنا المدني: الاحزاب، النقابات، المؤسسات، والمنظمات المدنية والحقوقية، والصحافة، والشخصيات، إلى رفع أصواتهم الاحتجاجية في مواجهة سياسات القمع والتنكيل التي تعم اليمن، وتتخصص أكثر فأكثر بأصحاب الكلمة والرأي المستنير.
نحن العرب كلنا أسرى وسبايا، ولكن العيب كل العيب أن تفترس السبية السبية، كابداع درويش «وأرى السبايا في حروب السبي تفترس السّبايا».
معركة الصحفي الخيواني والفنان القرني معركة حرية الصحافة، حرية الرأي والتعبير والابداع، والدفاع عن الحريات كلها، وعن الانسان العربي المقهور والمكبل بأغلال الجهل والفقر والمرض، وانضاف إليها في اليمن السعيد سابقاً الاستبداد والفساد.
كثيراً ما رددت الرائعة الداعية الحقوقية «أمل الباشا»: وفروا العدالة لأنفسكم قبل أن تفرض عليكم؟ ولكن يبدو أن العبرة العظيمة من التاريخ أن لا أحد يعتبر بها، كرؤية هيجل.
ينبغي أن ترفع اصواتنا بالاحتجاج السلمي بألوانه وأشكاله المختلفة، وأن نصل بها إلى كل منظمات العفو وحقوق الانسان والصحفيين والادباء والفنانين والمفكرين وذوي الرأي والمحامين في مختلف بقاع الارض وفي عصرنا (فإن الله ليزع بالرأي العاما لا يزع بالقرآن).