حنايا

حنايا - هدى العطاس

تتبدى الشعوب العربية، كأنظمة ومجتمعات ومظاهر حياة، شعوبا تليق بها الدعابة، بل ولدينا، أي العرب، احتياطي عالمي للسخرية منا وعلينا، فدوافع سلوكنا واستجاباتنا لا يمكن أن يمر عليها متابع دونما وضع ابتسامة ساخرة على محياه. وسوقا للدليل على ذلك يمكن قراءة تفاعلات وسائل الإعلام العربية مع الشؤون الداخلية لأميركا، أو كما تعد في المطاف الأخير شؤونا داخلية. وربما ما يصدق على توصيف تفاعلها بأنه استغراق وتحايث

تتبدى الشعوب العربية، كأنظمة ومجتمعات ومظاهر حياة، شعوبا تليق بها الدعابة، بل ولدينا، أي العرب، احتياطي عالمي للسخرية منا وعلينا، فدوافع سلوكنا واستجاباتنا لا يمكن أن يمر عليها متابع دونما وضع ابتسامة ساخرة على محياه. وسوقا للدليل على ذلك يمكن قراءة تفاعلات وسائل الإعلام العربية مع الشؤون الداخلية لأميركا، أو كما تعد في المطاف الأخير شؤونا داخلية. وربما ما يصدق على توصيف تفاعلها بأنه استغراق وتحايث قد لا تحظى به هذه الأحداث في بلدانها نفسها. ومثال على ذلك تغطية انتخابات الرئاسة الأميركية، حيث تتنادى هذه الوسائل لمتابعة هذا الحدث بانشداد واستغراق لا يحظى بمثيله شأن داخلي في بلدانها يتعلق بقضايا الناس ومعاشهم وواقعهم اليومي. فعند اقتراب ألانتخابات الاميركية يشمِّر الكُتَّاب المرموقون عن أقلامهم، والمحللون السياسيون يتنافسون في تقاريرهم التلفزيونية، ولا يخلفهم طبعا رؤساء تحرير الصحف تدبيجا للموضوع في افتتاحياتهم. يأتي هذا التدافع في سياق استعراضي لا تفسير له سوى ميل هذه الأقلام إلى ادعاء بلوغها شأوا إعلاميا، وتوصيف أصحابها كمحللين وكُتّاب عالميين.
يضحكني هذا التهافت من قبل الإعلاميين العرب وقنواتهم، سواء المقروءة منها والمرئية والمسموعة، على الاستغراق المتشنج في تغطية الشأن الداخلي الأميركي، بينما هذه الأقلام "الكبيرة العميقة" تأنف تناول شأن داخلي أو حادثة يومية تمس المواطن، وتتبدى ليست ذات بال في نظرهم، ولا تستحق التحليل. وتتناسى هذه الأوعية الإعلامية أن صعود اوباما الديمقراطي أو ماكين الجمهوري هو شأن أميركي داخلي يخضع لرهانات الواقع الأميركي واحتياجاته، وحينما تتصدر الشؤون الخارجية أجندة حملاتهم الانتخابية يأتي ذلك في معرض التأكيد على المصالح الأميركية الداخلية ذات الوشائج الخارجية، وليس اعتناء بالشؤون الدولية لذاتها، بل في سياق المصلحة الأميركية العظمى وترتيب البيت الداخلي لأميركا، وكذلك حرصا على الناخب الأميركي، الذي لا يمكن استغفاله، والذي يقوم بمسألة المرشح قبل أن يمنحه ثقته، ومهما تعاظمت توجهات المرشح الاميركي فيما يخص الشؤون الخارجية والعلاقات الأميركية الدولية، فإنه لن يعارضها وتوجهات السياسة الأميركية الداخلية، سواء مع أم ضد الدول الأخرى والتي لا يبت فيها في الدولة العظمى شخص الرئيس وحده ويحددها الناخب الأميركي قبلا، الذي يمنح صوته وفق اشتراطاته واحتياجات واقعه.
في زيارة إلى تركيا مؤخرا أدهشني الإعلام التركي بتركيزه الشديد بل شبه الكامل على الشأن الداخلي والمحلي منه على الأخص. فمثلا خبر عن غرق طفل في بركة في إحدى القرى التركية يحظى بأهمية تتنادى لها كل وسائل الإعلام التركية، محللة ومفسرة أسبابه والمشاكل التي تتخفى وراءه، مقدمته بذلك على خبر سياسي يبدو في وسائل الإعلام العربي من الأهمية والجسامة بمكان. أما الشأن الخارجي فأنه لا يعنيهم في غالبه، إلا حينما يرتبط بتركيا بشكل لصيق ومباشر. إنه إعلام الناس، الذي يتوجه إليهم ومنهم ولأجلهم، وينتمي لقضاياهم، غير مهون من شأنها مهما صغرت من منظور إعلامنا العربي. إنه إعلام وطني غير مهجوس برئيس الدولة وأخباره، ولا باللغط السياسي الممجوج بين المعارضة والسلطة، والسياسة في تحليله وتعاطيه هي معاش الناس اليومي في تفصيلاته الصغيرة.
ربما ما يستميح العذر للإعلام العربي أنه يعوض بالديمقراطية الأميركية نقص الديمقراطية في البلدان العربية المنتقصة وبلا منازع... وحديثنا ممتد.
hudaalattasMail