سهلٌ أن تكوني مثليَّة!

"من السهل جداً أن أكون مثلية هناك!" قالتها صديقتي، فاتسع بؤبؤا عيني من جديد.
قالتها وهي تدري ما تقول.
قالتها عن تجربة!
"مثَليّ" هي الكلمة التي أستخدمها بديلاً من "شاذ"، أو "سحاقية"، أو "لواطي"؛ لأن الكلمات الثلاث الأخيرة لا تصف فحسب، بل تضيف إليها "حكماً" و"موقفاً" مسبقاً. في المقابل فإن كلمة "مثلَيّ" أو "مثليّة" محايدة، تصف بدقة أن ذاك الشخص يفضل إقامة علاقة حسية مع مثيله من النوع الجنسي، وتصمت! هي ببساطة لا تصدر حكماً على ذاك الشخص، ذكراً كان أم أنثى.
و"هناكـ" قصدت بها صديقتي مصر.
تماماً كما أعرف أنا أن "هنا" أو"هناكـ" لا فرق بينهما. على الأقل ليس في هذا الشأن الذي أحدثكم عنه.
أليس من السهل فعل ذلك أيضا في بلدين كاليمن والسعودية؟ سهل جداً في ظل ذلك الفصل القهري بين الجنسين. كأنكِ ترتشفين كوباً من الماء في ميدان عام في وضح النهار. وفي الواقع، خطر على بالي لوهلة أن المجتمع والدولة يتواطآن على ذلك عمداً، لولا أنهم لا يعون.
هل سيفكر "المطوع"، الذي يبحث تحت الحجر وفي العدم عن "الخطيئة" كما يسميها، عمّا تفعله امرأتان خلف ذلك الباب المغلق.
لو دخل عليهما ستحسب عليه خلوة. وأكاد أبتسم وأنا أقول ذلك.
مسكين أيها المغفل!
 وأذكر كيف كانت النساء في جلسة "تفرطة" (مجالس القات النسائية في اليمن) يتغامزن وهن يهمسن بأن فلانة "صديقة" فلانة. وأنا العذراء الغارقة في عوالم الكتب أستفسر كالبلهاء: "وأين المشكلة في الصداقة؟"، فتتلاقى أعين المتحدثات متنهدة، وتبتسم بصمت.
وبعدها بنحو عقدين عادت إلى ذاكرتي تلك الكلمات وأنا أقرأ رواية الأديبة السورية سمر يزبك "رائحة القرفة"، الصادرة عن دار الآداب، 2008.
 أليس من الغريب أن تلتقي الحكايات بغض النظر عن المكان؟ كأنها تتواطأ هي الأخرى على الواقع الذي تنبثق منه.
سمر يزبك كتبت عن علاقة سيدة دمشقية من الطبقة العليا المترفة بخادمتها الصغيرة، القادمة من العالم السفلي المدقع في الفقر. هنا تدور الحكاية حول عملية إستغلال جنسي لطفلة. لم تكن علاقة مثلية. التمييز ضرروي عزيزاتي.
لكن خيوط الحكاية تنسج من واقع تعاني فيه تلك السيدة الدمشقية من زواجها إلى ابن عمها العجوز، الذي كان لها أخاً ليصبح زوجها، والذي كانت تختنق تحته كل ليلة، ومن رائحته، "رائحة التماسيح"، تدعو الله أن يمنحها الولد الذي تزوجها من أجله، لولا أن الرحمن لا يستجيب.
 دخلت إلى الزواج مغمضة العينين. لا تدري ما يعنيه الزواج.
 كم منا دخلت كالعمياء إلى غول الزواج، وبدأت تولول لأمها عندما حاول زوجها أن يقبلها، قبلةً حارة، تقول لها إنه يريد ان يبتلعها من شفتيها؟
 كم منا لم تفهم كيف يمكن للمرأة أن تستجيب، وظنت أن ما يريده منها زوجها "عيبـ"؟
ومن قبل قالوا لها إن الاستجابة "عيبـ"، والعلاقة الحسية "مصيبة"، وقطرة الدم التي تنفر منها "كنز"!
ثم حذروا بابتسامة تجمع بين الجد والهذر: "خافي عليها كي لا نجز عنقكـ"!
والمسكينة لا ترى سوى السكين، والدم.
ثم نريدها أن تكون "فاضلة" في السرير!
فاضلة، كالراهبة، تخرج منه كما دخلت إليه، بشراشف بيضاء ناصعة، لا بلل فيها.
كوني "مطيعة"، كوني "مطواعة"، لكن لا تكوني "ناراً حارقة"، لا "تستجيبي".
ثم طوعي نفسك على التلقي.
كوني متلقية.
متلقية.
 متلقية.
والمسكين يعاني من تلقيها.
والمسكين يصرخ من طواعيتها.
والمسكين يدري أن بالإمكان أن يكون الأمر أفضل مما هو عليه، ولا يدري كيف "يحسنه"! هذا بالطبع إذا كانت له تجربة من قبل!
 كم منكم تمنى لو أن زوجته تعطيه أكثر من التلقي.
 ثم بدأ يكتم أنفاسها بيده، يضع كفه على فمها، حتى يكمل الفعل، ويقوم عنها ليغتسل.
ويشعر بالحرج وهو يفعل ذلك.
ويشعر أنه خرج من إنسانيته وهو يفعل ذلك.
وكلاهما كان تعيساً.
 أليس كذلك؟
ولأنها عاشت ميتة في علاقتها الحسية، اكتشفت المتعة في علاقة مثلية مع امرأة مثلها، لكنها لم تكتف، فبدأت في استغلال خادمتها الطفلة جنسياً.
سمر يزبك لا تكتب من خيالها. هي تنتمي إلى جيل من الأديبات القديرات اللواتي يجدن من العار أن يلُذن إلى الخيال في وقت يعرفن فيه جيداً أن واقعنا العربي أغرب من الخيال ذاته. فتنهل من الواقع، لتدمينا كلماتها.
وكما وصفت بدقة في روايتها واقع الفقر المدقع، وما يحدث فيه للفتيات والنساء من انتهاك، وكيف يتراكم الرجال والنساء والأطفال فوق بعضهم البعض، لا تسمع بينهم سوى صوت الأقوى، والجوع، والخوف، والوجع. سردت لنا حياة فئة من النساء في المجتمع المخملي، ممن لم يجدن أنفسهن حسياً مع الرجل، فتحولن إلى نوعهن هن، إلى المرأة.
تحكي لنا: "بنات العشرة (اللواتي تعرفت إليهن حنان، بطلة القصة) في أغلبهن متزوجات، ولكل منهن صاحبة أو عشيقة، وأغلبهن يتزوجن مبكراً. والقليل من الناس يعرفون بأمرهن، فمجالسهن حكر على النساء. والرجال يأمنون حين تكون نساؤهم بصحبة نساء أخريات، حتى لو شعروا أن في الصحبة ما يريب. فالأمر يبقى مقبولاً، إذا بقيت علاقة المرأة سرية. وما إن تبدأ التقولات، حتى يلجأ الزوج إلى فصل العلاقة بين زوجته وصاحبتها" (ص 97).
قرأت تلك العبارة، وتذكرت كلمات تلك الصديقة: "من السهل جداً أن أكون مثلية هناكـ"، ثم نساء "التفرطة" وهن يتغامزن: "فلانة صديقة فلانة"، وعيناي، عيناي اللتان ما فتئتا تسجلان الكلمات والصور، وتدوناها في ذاكرتي، تتسعان من جديد...
وللحديث بقية.
أراكم على خير إذن!
[email protected]