علي الجرادي يتساءل: هل يكون مجلس (إنقاذ) قضائي؟

علي الجرادي يتساءل: هل يكون مجلس (إنقاذ) قضائي؟

يمكننا تجاوز المقولة التقليدية بأن العدل اساس الحكم إلى القول بأن العدل ماء الحياة وروح يسري في المجتمع وفي حالة تعرضه لإضطراب تستحيل معه الحياة إلى غابة يفترس الأقوى (نفوذاً ومالاً) حقوق كل ضعيف، وتستباح معه معنى تكريم الآدمية «ولقد كرمنا بني آدم» وتمسخ بغيابه معاني القسط والحق كمفاهيم ربانية من أجلها جاءت الرسالات وحملها الرُسل.
والقضاء في اليمن منذ 42 عاماً من الثورة اليمنية (شمالاً) هو المسكوت الوحيد عنه في أدبيات الخطاب السياسي والنقاش الاجتماعي، ويتم التطرق إليه بكلمات محدودة في إشارات عابرة، لم يحظى -رغم خطورته البالغة- بأي نقاش مستفيض تواطئت على السكوت عنه كل القوى السياسية «سلطة ومعارضة» ومهتمين وأفظع منه سكوت وخوف المنتمين لجهاز العدالة بلغت ذروتها بالتفريط بالنصوص الدستورية الكافلة للاستقلال القضائي والمالي والإداري وايضاً حتى التنازل طوايعة عن نقابتهم المدنية «المنتدى القضائى» وتسليمها إلى سلطات رئيس المحكمة العليا (سابقاً).
مؤخراً جرى تعديل جزئي في قانون السلطة القضائية تخلى بموجبه الرئيس علي عبدالله صالح عن رئاسة مجلس القضاء الأعلى واحتفظ لنفسه بحق دعوة المجلس للانعقاد برئاسته عند الحاجة واستيقظت المعارضة متأخرة بعد اسبوع لتصفه بالتعديل الشكلي وعددت فيه مثالب قانون السلطة القضائية وامتلاك السلطة التنفيذية لناصية التعيين والعزل والترقية «ليس هذا آوان مناقشة قانون السلطة القضائية الذي يحتوي على مخالفات دستورية» بينما اعتبرت أوساط قضائية هذا التعديل خطوة تمهيدية لتحقيق الاستقلال (السياسي) عن السلطة التنفيذية.
ما أود التركيز عليه هنا في هذه التناولة هي اللحظة الفارقة التي يشغلها مجلس القضاء الأعلى حالياً فبعد تشكيله الجديد وضم وجوهاً بارزة تحظى بسمعة جيدة أمثال القاضي عصام السماوي والدكتور الاغبري والقاضي الهتار والدكتور الغشم والدكتور فروان والدكتور عبدالله العلفي وعدد من زملائهم الآخرين سيكون القضاء على موعد مع قدر جديد وهذا المجلس اشبه بمجلس إنقاذ بعد صمت خيم 42 عاماً على أخطر المؤسسات تأثيراً في حياة الناس ومستقبل العدالة والحرية والحقوق ووضع حد للاضطرابات الاجتماعية وعودة الاحتكام لفوهات البنادق بديلاً عن ساحات المحاكم.
إذا تخلص المجلس من عقدة (الرهاب أو الخوف السياسي) واستشعر المسؤولية الشرعية والأخلاقية والقانونية ولحظته التاريخية التي وضع فيها سيسجل التاريخ هذا المجلس وأعضائه باعتبارهم وضعوا أول مدماك في انجاز تحول جوهري في علاقة السلطة القضائية وتبعيتها للسلطة التنفيذية ومن حق فقهاء القانون ان يعيبوا على مقالي هذا المهمات التي انطتها بالمجلس باعتباره أقرب لما يشبهه البعض (بشؤون موظفي القضاة).. لكن التأني في النظر يمنح هذه المجلس مهمات استثنائية وخطيرة ويترتب عليها نهضة القضاء او النكوص إلى الخلف.
فدعونا نؤجل مسألة الاستقلال الفعلي أو ما أسميه الاستقلال السياسي عن السلطة التنفيذية وخيوط «مكتب الرئاسة»، تناقشت مع مسؤول رفيع في القضاء ثم قال لي أثناء الحديث «فلان» ويقصد مسؤول في مكتب الرئاسة غير راضٍ عنك، وهكذا تستوطن الرهبة السياسية عقول وأفئدة من بأيديهم تحقيق العدل والاستقلال.
إذا أجلنا مسألة الاستقلال السياسي لمرحلة لاحقة فإن المجلس بدأ خطوات رائعة تتعلق بمسلك القضاة والتركيز على (السيرة الذاتية) والتي هي جوهر الاستقلال (العدل في نفس القاضي وليس في نص القانون) وأحال مجموعة للتحقيق وأخرى للمحاسبة وهذه القرارات تمثل قوة ردع لسلوكيات مشينة يقترفها نفر معدود من اولئك الذين وجدوا انفسهم فجأة قضاة بين ليلة وضحاها فمن (الكتيبة أو المعلامة) إلى منصة القضاء، أو لأسباب سياسية أو جغرافية أو مذهبية و غيرهم عدد من الكفاءات تعرضوا للإقصاء لذات الأسباب طوال الحقبة الماضية، إذا أن المؤسسة القضائية اليمنية شهدت متغيرات شديدة أشبه بـ«الإنفلات» بمعناها الإقصائي والمذهبي وأتذكر أول تقرير عن العدل كتبته لمركز الدراسات الاستراتيجية عام 1997 ما قاله اسماعيل الوزير في خطة الإصلاح القضائي بأن مشاكل القضاء أشبه بجبل جليد في قاع البحر لم يطف منه سوى رأسه.
وكانت كلمة السر في هذه «الانقلابات» هي تسليم وزارة العدل كحصة سياسية أو مذهبية أو جغرافية في مراحل ساقبة عسى أن لاينطبق ذلك على ماهو قائم وهو ما يأمله الجميع في شخص الدكتور غازي الأغبري وزملائه في مجلس القضاء باعتبار نزاهة وعفة السماوي وتجارب وخبرة القاضي الهتار وهدوء واتزان وإدراك الأغبري مع حنكة الدكتور العلفي.
إذن يستطيع مجلس القضاء الأعلى بواسطة تقارير التفتيش القضائي في هذا المراحلة تتبع السيرة الذاتية المتعلقة بأداء القاضي في أحكامه القضائية أو تلك المتعلقة بسلوكه الشخصي وهي البوابة الحقيقية لعودة ثقة الناس بالقضاء وتبدأ باختيار من يلتحق بالمعهد العالي للقضاء وفق شروط محددة والتدريب والمتابعة والتأهيل والتفتيش الدوري والمفاجئ ثم تفعيل مبدأ الثواب والعقاب.
ما يحدث حالياً في مجلس القضاء بانتظام جلساته وفاعلية قراراته أنهى مرحلة «شلل المجلس» ولأول مرة تلتئم قيادة جماعية بعد محاولات الدكتور عدنان الجفري وزير العدل السابق بتفعيل المجلس والمصادقة على استراتيجية تحديث وتطوير القضاء الذي كانت خلاصة مؤتمرات قضائية واسعة.
وبخصوص قانون السلطة القضائية الذي ينوي المجلس تعديله فإني اتمنى عليهم إشراك منتسبي السلطة القضائية والمنظمات الحقوقية والمدنية وعلى رأسها نقابة المحامين في نقاش واسع للتعديل باعتبار قانون السلطة القضائية «صمام أمان العدالة» مستقبلاً ويتوقف عليه أمن وأمان المجتمع وطمأنينة المستثمر.
وأمنية أخيرة أتوجه بها للقيادات السياسية ورجال الصحافة والإعلام والمنظمات المدنية الالتفات لمايحدث في هذا المجلس ومباركة أعماله في خطواته الاولى والتقويم السديد إذا ما حدث أي أعوجاج لا سمح الله.